مدينة لا يزال حاضرها يحتفي بماضيها من خلال تمسكها الكبير بكل ما يتعلق بعراقتها وأصالتها من موروثات شعبية مادية وغير مادية رسمت على مدار قرون من الزمن معالم مدينة البليدة الفيحاء بروائح الورد و الياسمين وزهور البرتقال. فاستحقت أن يسميها العالم الجليل أحمد بن يوسف عند زيارته لها يوما ''الوريدة''. اختارت الحوار ضمن عددها هذا أن تقف على أهم المعالم التي تزخر بها مدينة البليدة فكانت لها هذه الورقة. أثار الاندلسيين في تحديد ملامح مدينة البليدة كان للأندلسيين الذين اندمجوا في المجتمع البليدي عن طريق الإقامة الدائمة ثم المصاهرة، الأثر الكبير في تحديد ملامح المدينة لاحقا من الناحية الاجتماعية والثقافية، حيث لايزال المجتمع البليدي إلى اليوم يحتفظ بالعادات والتقاليد التي حملها الأندلسيون معهم. ولينظر الناظر إلى الأطعمة والألبسة وطقوس الزواج والموسيقى وهندسة المنازل وأشياء أخرى. وقد بدأت قصة التآلف بين الإنسان والمكان والتاريخ مع بداية القرن السادس عشر الميلادي، حيث كانت البليدة آنذاك كغيرها من كثير من الأماكن في الجزائر، ملاذا لأولئك العرب المسلمين الأندلسيين الذين كان من بينهم العلماء والقادة والساسة. وكان من حسن حظ مدينة البليدة أن يستقر بها أحد هؤلاء القادمين، وكان عالما ومهندس ري. تجمع معظم الروايات التي تتداولها المصادر والذاكرة المتواترة على أن الوجود الفعلى لمدينة البليدة كان مع العقد الثالث من القرن السادس عشر الميلادي. وهو القرن الذي وصل فيه العلامة أحمد سيدي الكبير إلى المنطقة التي لم يكن يتواجد بها آنذاك سوى بعض القبائل العربية والبربرية وكان أبرزها وأشهرها قبيلة أولاد سلطان. وكانت تقيم بما يعرف اليوم بحي الدويرات. وقد آزر أولاد سلطان هذا الوافد إليهم من الأندلس وساعدوه على إقامة مجمع للوافدين معه في المكان المعروف بوادي الرمان. وقد تعزز وجود الأندلسيين بعد ذلك وبرزوا بإمرة سيدي الكبير كمجتمع منظم ومتحضّر. وبدأت تظهر النواة الأولى لمدينة البليدة الحالية حول مسجد سيدي الكبير الذي شيد بساحة أول نوفمبر، أو ساحة التوت كما يسميها سكان المدينة وذلك بالقرب من مسجد الكوثر. ونشأت من حول المسجد مرافق أخرى كانت ضرورية لحياة سكان المدينة كالفرن والحمام وغيرها. وهكذا توسعت المدينة بعد ذلك وأحيطت بالأسوار وجعلت لها سبعة أبواب، لا تزال مسمياتها متداولة إلى يومنا هذا، كباب السبت وباب الجزائر وباب الزاوية وغيرها. وقد استثمر سيدي الكبير معرفته وخبرته العلمية في تطوير المكان، فاستغل وفرة المياه وخصوبة الأراضي في إنشاء البساتين الخضراء وهو ما لم يكن معروفا بين السكان الأصليين، ومن بين اشهر من اعجب بهذه الدهشة عالم مليانة الشهير سيدي أحمد بن يوسف عندما زارها يوما بعبارته المعروفة ''سموك البليدة، أما أنا فأسميك الوريدة''. مسجد الكوثر.. المنارة الإسلامية العتيقة يقع مسجد الكوثر وسط المدينة وبالتحديد بساحة بن مراح المعروفة بساحة التوت الشهيرة بالبليدة، يتميز المسجد بفساحته إذ يستقطب أكثر من 12 ألف مصلٍ بالمناسبات الدينية. تأسس المسجد سنة 1533 على يد الشيخ سيدي احمد الكبير وبني بفضل تبرعات اهل المنطقة، وككل المساجد في الجزائر تعرض مسجد الكوثر إبان الحقبة الاستعمارية إلى انتهاك حرمته وتهديمه من قبل المستعمر الفرنسي سنة 1830، وبعدها بني في مكانه كنيسة للفرنسيين، وظلت إلى مابعد الاستقلال حتى سنة 1974 حين قامت السلطات الولائية بالتنسيق مع مفتشية الشؤون الدينية بولاية البليدة بتهديم الكنيسة وإعادة بناء مسجد الكوثر وتوسيعه، وسمي بالكوثر، استنادا لما ورد في الأثر الإسلامي. فتح المسجد رسميا للمصلين سنة 1981 وتعاقب على مسجد الكوثر كبار الأئمة بالجزائر كالشيخ علي الشرفي، الشيخ الزبير ومحيي الدين تشاتشان. يتربع مسجد الكوثر ككل على مساحة 12000 م2 وبه قاعة الصلاة بالطابق العلوي مساحتها حوالي 4000 م2 وتتسع ل 8000 مصلٍ ترتكز على 25 عمودا منها الأعمدة المزدوجة، ويضم المسجد بالطابق السفلي مدرسة قرآنية، قاعة المحاضرات تضم 550 مقعد، بيوتا للوضوء ومكتبتين داخلية وخارجية تحوي كتبا من مختلف المجالات ويضم المسجد المركز الثقافي الإسلامي. ولعل أكثر ما يلفت الانتباه بمسجد الكوثر هو قبته الكبيرة التي تعد من أكبر قباب المساجد بالجزائر وكذلك مآذنه الأربع التي تظهر بمجرد أن ترفع رأسك إلى الأعلى، والتي اعتمد المهندسون في بنائها على الشكل الثماني حيث يبلغ طول كل مئذنة 60 مترا. وطبيعة بناء المسجد تصميم قديم وبناء حديث يوجد بداخله محراب منقوشة عليه آيات قرآنية بالجبس ومنبر ثابت مبني بالرخام.ويرتكز التعبير الفني بالمسجد في كتابة المصحف الشريف على بلاطات تحيط بالمسجد من الداخل والخارج من سورة الفاتحة إلى سورة الناس وذلك تحت إشراف اكبر أئمة الوطن. واد سيدي لكبير أسطورة الولي الصالح الذي شق الواد يحكي واد سيدي الكبير بالبليدة للواقف على ضفافه حكاية هي الأكثر رواجا بين شيوخ المدينة حكاية تقترب إلى الأسطورة رغم حقيقة شخصية العلامة و الولي الصالح احمد سيدي لكبير، حيث تروى الحكاية تفاصيل عن علاقة العالم سيدي الكبير بالوادي، وكيف أنه شق مجراه بعصا كان يحملها. وبعيدا عن أجواء الأسطورة تتحدد علاقة سيدي الكبير المكان الحالي بسيدي الكبير العالم من خلال الضريح الذي أقيم له في المنطقة التي لم تكن في زمنه سوى منتزها يسر الناظرين؛ حيث يوجد جثمانه هناك. وقد أصبح مع مرور الوقت مزارا إلى جانب أضرحة أخرى كضريح سيدي بلقاسم، ثم نشأت من حول الضريحين أضرحة أخرى لأعيان المدينة من السكان الأصليين أو الأتراك الذين استوطنوا بالبليدة فترة من الزمن. وشيّد مسجد صغير بالقرب من الضريح كان زاوية لحفظ القرآن وتدريس مختلف العلوم الشرعية يؤمه طلبة العلم من أماكن مختلفة. وقد اكتسب المكان أهمية بالغة لدى البليدين وغيرهم من سكان المناطق المجاورة، وحتى البعيدة وأصبح المقام محجا للتبرك والزيارة، لكن المكان بدأ يفقد بريقه منذ أزيد من عقد من الزمان، فقد تخلى الناس هناك عن كثير من الطقوس، وسكنه الخوف، كما سكن أماكن كثيرة في الوطن، وانقطع الناس عن زيارة المقام الذي تعرض للتلف والحرق في الزمن الأحمر، وكادت الذاكرة تسقط سيدي الكبير من بين تلافيفها.