إن الحديث عن تأثير الحضارة العربية الإسلامية على أوروبا في الفترة التي تسمى عندهم بالعصور الوسطى، حديث لا ينتهي وله أكثر من مبرر تاريخي وعلمي استشرافي، ذلك كان ماض مجيد، يطل علينا ونحن في ظلّ حاضر قبيح انتقلنا فيه من مكان الفاعل إلى مكان المفعول به في الحركية الحضارية العالمية. وتبقى الشروط الموضوعية التي أرست عليها الحضارة العربية الإسلامية تفوقها في ما سبق صالحة مع تكييفها مع روح العصر إلى بعث الأمة العربية والإسلامية من جديد، وليسجل التاريخ أن العرب المسلمين لما فتحوا الشواطئ الشرقية والجنوبية للبحر المتوسط وعبروا مضيق جبل طارق إلى شبه جزيرة إيبيريا وفرضوا سيادتهم على جزر البحر الأبيض المتوسط وأزاحوا من الأذهان ما كان يسمونه الرومان (بحرنا) إلى بحيرة عربية إسلامية، ولم يبق البحر المتوسط عامل فصل بقدر ما كان عامل وصل وتواصل بين المنطقة العربية وأوروبا. إن التعرض إلى هذه الجوانب المشرقة والمشرفة تتطلب منا ونحن ننظر في موضوع اللغة العربية كثابت من ثوابت حزب جبهة التحرير الوطني، أن نوسع النظرة والآفاق، لأن الهدف أولا وقبل كل شيئ ليس هو التعريب من أجل التعريب، فالتحديات تتمثل في كسب رهان البحث العلمي من أجل الاختراع والإبداع في جميع المجالات، ولعل تعرضنا إلى استفادة الغرب من التطور العلمي العربي الإسلامي في أول خطوة له قبل أن ينهض نهضته العملاقة التي تسود العالم اليوم والبارحة قبله ونسعد باختراعاتها المادية، فيه ما يفيدنا من دروس ناجحة ومثمرة، قد تكون بالنسبة إلى وضعنا البائس التذكير بخارطة طريق في ما نحن نسعى مرغمين إلى تحقيقه في وطننا، بل وهو ذات المسعى لدى الدول العربية الأخرى بدون استثناء، إنه طريق شاق وطويل يستلزم الاعتماد على النفس وشحذ الهمم وتوفير الإمكانيات، والاستفادة مما هو ماثل أمامنا من أسباب النجاح، ومما وفرته الحضارة الغربية من إمكانيات تقنية وفرص كسب التكنولوجيات، وما يضمنه البحث العلمي الحديث، ومن نافلة القول أن العلم الحديث الذي نعني به والذي يعزى إليه مركز القوة والغنى هو: مجموعة من المناهج ذات طابع معين تمكن للعلم أن يتحدد مجموعة معارف متراكمة لازمة عن تطبيق هذه المعارف مجموعة من القيم الثقافية والأخلاقيات التي تحكم النشاطات العلمية أو ترتبط بها. وكثير من باقي التفاصيل والمحطات أشرنا إليها في مرجعنا الموسوم تحت عنوان: المنهجية والبحث العلمي، الصادر عن ديوان المطبوعات الجامعية. إن استعمال اللغات الأجنبية، وتنشيط حركة الترجمة التي تعتبر بوابة تمر من خلالها كل الحضارات، كلها عوامل أساسية لأي نهضة علمية وفكرية في إطار مجهودات البحث العلمي في بلادنا، والتي لا يمكن تصور نجاح المسعى فيه وتطوره إلا باعتماده على اللغة العربية نفسها كلغة للتفكير والبحوث الاجتماعية والاقتصادية والعلمية الخ...ذلك أن الذي يحرم اللغة العربية من أسباب النمو والتطور، إنما هو حرمانها من الاستعمال والتداول بها في الوسط الاجتماعي والاقتصادي والثقافي. إن ظاهرة الازدواجية، العامية من جهة، والفصحى من جهة ثانية، ليس بظاهرة دخيلة على المجتمع الجزائري ومعرقلة للغة الوطنية والرسمية في البلاد، بل هي ظاهرة برزت إلى الوجود منذ العصر الأموي بسبب ما حصل من احتكاك بالحضارات والتقنيات الجديدة آنذاك إذ طرأ عليها نوع من التحوير، والتركيب كلغة للثقافة، بها كانت تعبر الشعوب الإسلامية عن شؤونها وانشغالاتها.. ونتيجة للتطور الهائل الذي شاهدته الفصحى، فاتخذها الأدباء والعلماء والعرب والمستعربون، كأداة للتعبير الكتابي، بينما بقيت الدارجة أو العامية تسير سيرها المستقل كأداة للتعامل في الحياة اليومية، وهي غير صالحة للتعليم والتدريس بالطبع، وهذا ما تنبهت إليه الجزائر منذ بداية السبعينات على لسان رئيسها المرحوم هواري بومدين عندما وضع حدا فاصلا للجدل الذي كانت تغذيه بعض الأطراف والذي يتمحور حول إمكانية ترسيم اللهجات الشعبية كلغات للتدريس وما شابه ذلك.. وكانت عبارته الدقيقة المعبرة والمركزة فيما معناه: ''..أن اللغة يجب أن تكون عامل توحيد بين أفراد الشعب وليس عامل تفرقة وتشتيت، وأن المطلوب منا أن نرتقي بعقولنا إلى كمالها وجمالها، وليس أن ننزل بها إلى الأسفل للتشتيت على لهجات ومآلها آنذاك التقزيم والضياع ..''. كما أن المطلوب فيما يراه الراحل ليس التعريب فحسب، بل تطوير اللغة العربية لتصبح لغة الحديد والصلب في مدينة عنابة، ولغة البترول في سكيكدة، ولغة الغاز بأرزيو الخ... ومع ذلك تبقى العامية أداة طيعة للتفاهم، بل ووسيلة ممتازة، بواسطتها تكتمل الثقافة الوطنية، ومن الثابت علميا أن الدارجة أو العامية تساهم في غرس الملكة اللغوية بالنسبة لمن يتعلم الفصحى الخ.. إن اليابان تقدمت في غفلة من الزمن، فاقتبست التكنولوجيا الغربية دون معوقات، وهاهي اليوم تسابق الغرب نفسه في الابتكار والإبداع، والأسواق الاقتصادية، بالرغم من أنها لا تملك الطاقة ولا المواد الأولية، وأن تطورها الحاصل إنما بلغتها الوطنية، إن ما تملكه اليابان كما هو معروف إنما الإنسان الذي أهلته فأحسنت تأهيله، وغير بعيد عليها روسيا التي كانت ذات يوم شعبا مطحونا تحت أقدام القياصرة، والتي هي اليوم دولة عظمى تسابق أعظم دول العالم ولم تكن لغتها عائقا ذات يوم لما حققته، وتلك الصين العملاق الذي استيقظ أخيرا ويرتفع من مستوى فقر وضياع إلى مستوى أمة عظيمة بمبادئها وقيمها واقتصادها المتنامي وتكنولوجياتها الواعدة رغم كثرة حروف لغتها وتشابكها وصعوبتها، فلم تكن حائلا أو معرقلة لأن تصبح تملك ناصية العلم والتكنولوجيا من بابها الواسع، وفي نفس القارة وفي نفس الجغرافيا والمناخ هناك نهضة معاصرة لدول قليلة العدد نسبيا وصغيرة الرقعة، فرضت نفسها أخيرا في الأسواق العالمية ومنتوجها يجوب القارات الخمس، مثل كوبا الجنوبية، وطايوان، وسنغافورة الخ.. وكلها من الدول التي أقامت نهضتها وتطورها على عقول أبنائها وإخلاصهم لشعوبهم، وما كانت لغاتهم لتحرمهم من فرصة كسب التكنولوجيات الحديثة الخ.... إن سر التفوق اليوم لدى هذه الشعوب وشعوب الدول الغربية بصفة عامة إنما يكمن في المنهج العلمي الذي تقوم عليه عظمة الحضارة الغربية اليوم والمتمثل بشكل أساسي في ارتكازها على البحث العلمي وعلى المنهجية التجريبية والعقلانية التي أشرنا إلى بعض تفاصيلها في مرجعنا سالف الذكر، وكذا بالموضوعية في الحقول العلمية، إذ بدأت بالرياضيات والفيزياء والكيمياء والفلك، والموسوعات العلمية، والشروع في الاستعمالات التكنولوجية، وما عرفه لاحقا التفجير العلمي والتكنولوجي العملاق الذي مازالت ثماره تتكاثر وتتنوع يوما بعد يوم، وبمعدل ما يزداد غناء هذه الدول المتطورة، يزداد فقر وبؤس الدول المتخلفة علميا، وتزداد الهوة بينهما عمقا وشساعة وتبقى من نصيب هذه الدول دون شك الطوابير الاستهلاكية تتعب وتشقى ليس من أجل الإبداع والابتكار، لكن من أجل اللحاق الظاهري بالركب، أو لمجرد الحصول على لقمة العيش في أحسن الأحوال الخ.. .../... انتهى