أثبت إضراب أمناء الضبط وموظفي الأسلاك المشتركة بقطاع العدالة، الذي انطلق في العاشر أفريل الماضي، أهمية هذه الشريحة كحلقة أساسية في الجهاز القضائي، وقدرتها على شل هياكله بمجرد التوقف عن العمل. وكشفت احتجاجات أكثر من 20 ألف مستخدم من الفئتين، على مستوى المحاكم والمجالس القضائية عبر الوطن، بأن هذه ''الانتفاضة'' المؤسسة في الظاهر على مطالب مهنية بحتة، كانت تخفي في باطنها حالة تذمر جماعي مزمن من المعاملة السيئة التي يتلقاها هؤلاء من قبل عدد كبير من القضاة. ساعات عمل إضافية دون مقابل والتأخر غير مسموح أمناء الضبط يطالبون ب''التحرر'' من قيود الوظيف العمومي انطلق ما يسمى ''بإضراب الكرامة'' لكتاب الضبط والأسلاك المشتركة، بعد مهلة قاربت الشهرين، دعا فيها المعنيون وزارة العدل إلى إعادة بعث الحوار على عريضة المطالب التي تعهدت السنة الماضية، ومن خلال محاضر اتفاق موقعة بين الطرفين، بتلبية جزء منها بشكل استعجالي، بالأخص مراجعة القانون الأساسي ونظام التعويضات، بالإضافة إلى التنصيب الفوري للجنة تحقيق في التجاوزات المرتكبة في حق الموظفين، وكذا مطالب اجتماعية أخرى تتعلق بتعميم الاستفادة من وسائل النقل والسكن الوظيفي، وكلها مطالب أعطى وزير القطاع حينذاك موافقته على تنفيذها، إلا أنه لم يتجسد منها إلا المطالب الثانوية، في تقدير المضربين، وظلت أهم المشاكل دون معالجة. وإذا كانت مطالب منتسبي الأسلاك المشتركة مرتكزة أساسا على الدعوة لتسوية وضعية المتعاقدين، وتحسين مستوى الأجور، فإن انشغالات كتاب الضبط تمتد إلى المطالبة بأن يكون سلكهم قائما بحد ذاته، وبعبارة أخرى متحررا من قيود الوظيف العمومي في مجال تطور المسار المهني وتحديد سلم الأجور. علما أن هذا المشروع الذي يقترح انفصالهم عن الوظيف العمومي كان موجودا على مستوى الوزارة منذ عهد حكومة بلخادم في العام 2006، إلا أنه لم ير النور، وظل حبيس الأدراج، إلى أن قرر أمناء الضبط ''إحياء'' الملف من جديد في مطلع 2011، وقاموا بشن حركة احتجاجية انتهت بتوقيع المحاضر المشار إليها سالفا. وتبين شهادات المحتجين المستجوبين في مختلف الاعتصامات المنظمة أمام مقرات المحاكم والمجالس القضائية وجود ضغط نفسي كبير على أمناء الضبط، سببه الشعور ''بالاضطهاد''، وعدم الاحترام من قبل القضاة، وهذا ما تورده الشكاوى الموجهة إلى الفيدرالية الوطنية لقطاع العدالة، وأغلبها تشير إلى حالة إرهاق يعاني منها الأمناء نتيجة العمل المتواصل، وأحيانا لأيام متوالية عندما يتعلق الأمر بمحاكمات كبيرة، في حين أنهم لا يتقاضون أي مقابل مالي نظير الساعات الإضافية التي يؤدونها، أو يوم راحة للاسترجاع، باستثناء في حالة المداومة. والأسوأ كما يؤكد هؤلاء أن بعضهم قد يقضي الليلة في الجلسات إلى غاية الرابعة فجرا على سبيل المثال، وهو مجبر على الاعتماد على نفسه في إيجاد وسيلة نقل للعودة إلى بيته، وأي تأخير في الصباح الموالي، ولو لنصف ساعة، قد يعرضه لعقوبة شديدة كالإحالة على المجلس التأديبي. وحسب هؤلاء ففي كثير من الحالات تخضع المسائل والعلاقات مع أمناء الضبط لمزاج وشخصية القاضي، وقد يكون هذا الأخير يحظى باحترام الجميع، لأنه معروف باستقامته ومعاملته المسؤولة اتجاه مرؤوسيه، وبالتالي يقدر المجهود الإضافي الذي يقدمه كاتبه. وعلى النقيض من هذا يشتكي المحتجون من السلوكات ''غير المقبولة'' لفئة أخرى من القضاة، يقولون بأنها ''تجردت من مشاعر الإنسانية'' تعامل كاتب الضبط بفضاضة واستعلاء، رغم قيامه بأعمال إضافية لا علاقة لها بمهامه، ويزيد في متاعبه اليومية معاناته مع النقل من أجل الوصول إلى مقر عمله، الذي أضحى شبيها، في نظره، بالسجن. شاهد من أهلها رئيس فيدرالية قطاع العدالة ل''الخبر'' ''الإضراب دخل مرحلة اللارجوع'' يحدد رئيس فيدرالية قطاع العدالة، مراد غدية، في هذا الحوار أسباب ''انتفاضة'' أمناء الضبط في العاشر أفريل الماضي، مؤكدا بأن مراجعة القانون الأساسي الذي وصفه بقانون ''عقوبات'' لتضمنه الواجبات فقط، وإغفاله حقوق هذه الشريحة التي جعلها تحت ''رحمة'' أسلاك أخرى في القطاع، وقال بأن تعليق الحركة الاحتجاجية غير مطروح. عدد كبير من أمناء الضبط استأنفوا العمل، والاحتجاجات لم تتوقف نهائيا.. لماذا فضلتم التصعيد بالدخول في إضراب عن الطعام؟ - تعليق الحركة دون افتكاك حقوقنا المشروعة، أو الجلوس إلى طاولة الحوار مع الوزارة الوصية للتفاوض على المطالب العالقة، معناه الاستسلام للضغوط والتهديدات، وهذا الأمر سيجر إلى المزيد من التجاوزات والإجراءات الانتقامية، بمجرد الإعلان عن قرار تجميد الاحتجاج، وهذا بالضبط ما تريده الوصاية، لكي تبرهن للرأي العام بأن الإضراب لم يكن مؤسسا على مطالب حقيقية. تطالبون بمراجعة القانون الأساسي على نحو يضمن استقلالية السلك عن الوظيف العمومي، هل من عوائق تحول دون ذلك؟ - مبدئيا لا يوجد أي عائق، بدليل أن المشروع الذي يكرس هذا المطلب موجود على مستوى الوزارة منذ العام 2006 في حكومة بلخادم، وقد تمت مناقشة الموضوع من جديد مع وزير العدل الطيب بلعيز السنة الماضية، إثر توقيف الاحتجاجات التي باشرها الأمناء حينذاك. وبالفعل تم تشكيل لجنة مشتركة لإثراء القانون الأساسي، وقدمنا مقترحات على أمل أن يتم الإسراع في إصدار هذه الوثيقة، غير أننا تفاجأنا بالصمت المطبق التي أعقب جلسات النقاش. وبعد عدة مراسلات استفسارية وجهناها للوزارة، بقيت دون إجابة، قررنا العودة إلى الاحتجاج في أفريل المنصرم. تعتبرون بأن الإفراج عن القانون الأساسي سيضع حدا لجميع مشاكل الأمناء؟ - ليس كلها لأن ثمة مشاكل مرتبطة بسلوكات القضاة، ومعاملتهم السيئة لنا، لكن الحقيقة أن القانون الأساسي في صيغته الحالية هو قانون واجبات فقط لا يوضح حقوق كتاب الضبط على اختلاف رتبهم، والأصل أن يكون رئيسك في العمل موظفا من نفس السلك، إلا بالنسبة لأمناء الضبط، فالكل يتحكم في مصيرهم، وهذا راجع بطبيعة الحال إلى الضبابية التي تكتنف عددا من مواد القانون الأساسي، موضع الاحتجاج. لذا فنحن نطالب بإلغاء تبعيتنا لأي سلك آخر في قطاع العدالة، وإخضاعنا للمادة 2 من قانون الوظيفة العمومية، الفقرة الثانية، التي تسمح لنا بأن نكون سلكا قائما بحد ذاته تابعا لوزارة العدل في كل ما يتعلق بتحديد المسار المهني وسلم الأجور. الوزارة منذ بداية الحركة الاحتجاجية تتجاهل وجود الفيدرالية، بل إنها لا تعترف بكم كممثلين للموظفين، ما هو موقفكم؟ - الفيدرالية الوطنية لقطاع العدالة كما تعلمون منضوية تحت لواء نقابة السناباب، وشرعيتنا نستمدها من القاعدة، ولعل التعبئة والتجنيد الكبيرين المسجلين في الإضراب منذ 20 يوما كافيين بنظري للرد على المشككين. ومشكل الوزارة أنها ترفض الاعتراف بشرعية الانشغالات المهنية والاجتماعية لكتاب الضبط والأسلاك المشتركة، لكن هذا التجاهل لن يحل الأزمة. وحتى استعانتها بالمحضرين القضائيين يعد خرقا للقانون، بشهادة نقابة المحامين، التي أمرت بعدم حضور الجلسات التي يغيب عنها أمين الضبط. بهذا الخصوص هل من مسؤولية تقع على عاتق أمين الضبط في حال تسجيل ضياع وثائق أو ملفات خلال فترة استخلافه، وماذا تقصدون بالمعاملة السيئة للقضاة؟ -بحكم القانون أمين الضبط هو الذي يدون ما يجري في جلسات المحاكمة، وهو الشاهد عليها، وضياع أي ملف أو وثيقة يعرض الكاتب لعقوبة السجن، وقد تصل إلى المؤبد بتهمة إتلاف وثائق إدارية أو تضييعها، ولذا فنحن نتبرأ مما حدث في الجلسات التي تم فيها استخلافنا بالمحضرين، ونطالب بإجراء تسليم واستلام المهام معهم بعد العودة، حتى نخلي مسؤوليتنا من أي مشاكل ذات صلة بملفات المتقاضين. أما تعسفات بعض وكلاء الجمهورية، وليس كلهم، فهي مسألة تحتاج إلى صفحات من الجرائد لسردها، وندعوا الوزارة إلى الوفاء بوعودها في تشكيل لجنة للتحقيق في تجاوزات القضاة ضد كتاب الضبط. بورتريه صرخة معاونة أمينة ضبط ليلى أبركان من ولاية تيزي وزو ''لسنا بحاجة لمن يلقننا دروسا في الوطنية'' لم تستغرق عملية إقناع ليلى أبركان، معاونة أمينة ضبط من مجلس قضاء تيزي وزو، الكثير من الوقت لتقدم لنا خلاصة 13 سنة عمل في قطاع العدالة. وقالت بالحرف الواحد: ''أنا لا أخشى أحدا، ومستعدة للحديث بكل صراحة عن صعوبات المهنة، وأشياء كثيرة لا يعرفها المواطن''. واستهلت السيدة ليلى حديثها عن ظروف العمل، سيما منذ انطلاق الاحتجاجات، بالتعليق على قرار تحويلها من المجلس إلى محكمة إدارية في إقليم الولاية بسبب الإضراب، بأنه أمر ''متوقع جدا''، رغم أنها لم تحال أبدا على المجلس التأديبي، وتحظى باحترام زملائها وزميلاتها، وأضافت ''ماذا ننتظر من إدارة تحرم موظفيها من حضور جنازة أفراد عائلاتهم المقربين، ولا تسمح لهم بالتغيب لظرف طارئ؟''. وترى المتحدثة بأن انعدام رقابة الوزارة الوصية على ما يحدث من تجاوزات في المحاكم والمجالس القضائية شجع فئة من وكلاء الجمهورية على ممارسة سلطتهم على كتاب الضبط ''أبسط حقوق أمين الضبط مهضومة، ومع ذلك فالوزارة ترفض التحرك، مفضلة دور المتفرج''. هذا الوضع، تتابع محدثتنا التي التحقت بالقطاع في سن ال29، ستكون له عواقب وخيمة مستقبلا، لأن الظلم عانت منه أجيال من كتاب الضبط، وهو ما يفسر الاستجابة الواسعة للإضراب، فجلهم مصاب بداء السكري ومشاكل ارتفاع الضغط الشرياني، رغم أن سنهم لم يتجاوز بعد الأربعين، وحتى الذين عادوا إلى مناصبهم، خوفا من تعرضهم للفصل بسبب الإضراب، لم يسلموا من الضغوط والتهديدات، و''هذا بالضبط ما دفعني للالتحاق بالمضربين عن الطعام''.