عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ''إن قامَت السّاعة وبيد أحدكم فَسيلةٌ، فإن استطاع أن لا يقوم حتّى يغرسَها فليفعل''. لعلَّ آخرَ ما كان يدورُ في ذهن مَنْ كان حول النّبيّ الكريم صلّى الله عليه وسلّم من السامعين أن يذكُرَ لهم الرَّسول المصطفى صلّى الله عليه وسلّم هذا الحديث. ولعلَّهم توقَّعوا أن يقول لهم الرّسول، الذي جاء ليذكِّرَ النّاس بالآخرة، ويحثَّهم على العمل لها، ويدعوهم إلى تنظيف ضمائرهم وسلوكهم من أجل اليوم الأكبر، يوم الحساب الّذي تدان فيه النّفوس. لعلّهم توقّعوا أن يقول لهم: لِيسرِعْ كلٌّ منكم فليستغفر ربَّه عمَّا قدَّمت يداه، وليتوجّه لله بدعوة خالصة أن يميتَهُ على الإيمان، ويقبل توبته، ويبعثه على الهدى. أو لعلّهم توقّعوا أن يقول لهم: اتركوا كلّ أمور الدنيا، وتوجَّهوا بقلوبكم إلى الآخرة، انقطعوا عن كلِّ ما يربِطُكُم بالأرض. توجّهوا إلى الله خالصين من كلّ رغبة في الحياة، حتّى إذا ذهبتم إلى ربّكم، ذهبتم وقد خلصت نفوسكم إليه، فيقبَل أوبتَكُم ويظلّكم بظلّه، حيث لا ظلّ إلاّ ظلّه. ولكن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يقل شيئًا من ذلك كلِّه الّذي توقّعه السّامعون. بل قال لهم أغرب ما يمكن أن يخطر على قلب بشر. قال لهم: إن كان بيد أحدكم فسيلة فاستطاع أن يغرسَها قبل أن تقومَ السَّاعةُ فليغرسها، فله بذلك أجر. وماذا يغرس؟ فسيلة النّخل الّتي لا تثمر إلاّ بعد سنين؟ والقيامة في طريقها إلى أن تقوم وعن يقين!! الإسلام وحده هو الّذي يمكن أن يوجّه القلوب هذا التوجيه، ونبيّ الإسلام وحده هو الّذي يمكن أن يهتدي بهذا الهدي، ويهدي به الآخرين. إنّها كلمة بسيطة لا غموض فيها، ولا صنعة، كلمة رغم غرابتها لأوّل وهلة، غير أنّها تخرج بسيطة كبساطة الفطرة، شاملة واسعة فسيحة، تضمّ بين دفتيها منهج حياة. ترى كم من معنى تستخلصه النّفس من هذه الكلمات البسيطة العميقة في آن واحد؟ إنَّ الدُّنيا والآخرة طريقان ليسَا منفصلين؛ إنّهما طريق واحد يشمل هذه وتلك، ويربط ما بين هذه وتلك. فليس هناك طريق للآخرة اسمه العبادة، وطريق للدنيا اسمه العمل، وإنّما هو طريق واحد، أوَّلُهُ في الدُّنيا وآخره في الآخرة. إنّه طريق لا يفترق فيه العمل عن العبادة، ولا العبادة عن العمل، فكلاهما شيء واحد في نظر الإسلام، وكلاهما يسير جنبًا إلى جنبٍ في هذا الطريق الواحد الّذي لا طريق سواه. لقد مرّت على البشرية فترات طويلة في الماضي والحاضر، كانت تحسّ فيها بالفرقة بين الطريقين. كانت تعتقد أنّ العملَ للآخرة يقتضي الانقطاعَ عن الدُّنيا، وأنَّ العملَ للدُّنيا يزاحم وقت الآخرة. لقد كانت هذه الفرقة بين الدنيا والآخرة عميقة الجذور في نفس البشرية، لا تقف عند هذا المظهر وحده، وإنّما تتعداه إلى مفاهيم أخرى تتصل بالكيان البشري في مجموعه. حين تعيش البشرية على هذه الفكرة المفرقة الموزّعة، تعيش ولا جرم في صراع دائم محيّر مضلّل، تعيش موزّعة النّفس منهوبة المشاعر، فهي لا تحس بوحدة تجمع كيانها، أو رابط يربط أشتاتها، فلا تعرف الرّاحة ولا تعرف السّلام. وما تزال هذه الفرقة تؤدي إلى نتائجها تلك في العالم الحديث، ولكنّها تزيد في مدنيتنا الحاضرة حتّى تبلغ مبلغ الجنون. وحالات الهستيريا، واضطراب الأعصاب، والانتحار تتزايد في ظلّ الحضارة الحديثة إلى درجة خطرة تؤذّن بتدمير الطاقة البشرية وتفتيتها. إنَّ هذا الّذي يحدُثُ هو صدى لتلك الفرقة الّتي توزّع النّفس الواحدة في وجهات شتى ثمّ لا تربط بينها برباط. والطريق الأكبر لتوحيد هذا الشَّتات النافر المنتثر، وربطه كلّه في كيان، هو توحيد الدُّنيا والآخرة في طريق واحد. عندئذ لا تتوزّع الحياة عملاً وعبادة منفصلين. ولا تتوزّع النّفس جسمًا وروحًا منفصلين. ولا تتوزّع الأهداف عملية ونظرية، أو واقعية ومثالية لا تلتقيان. بل هما شيء واحد، فلا رهبانية في الإسلام. ولا تجرّد كلّي للحياة ولا انفصال عمّا تحتاجه الروح.. هكذا يريد منّا الإسلام أن نصنع بسهولة ويسر. * إمام مسجد عمر بن الخطاب- براقي