يصرّ جموع المتقاعدين الذين التقينا بهم ببعض الساحات العمومية للجزائر العاصمة، والتي باتت ملجأهم الوحيد وملتقاهم الرئيسي، في ظل انعدام أي فضاء للترويح خاص بهذه الفئة ببلادنا، على أنهم يمرّون عبر فترة "الموت قاعدين" كتفكيك منهم لمصطلح "المتقاعدين"، رغم أنها فترة التمتّع بالحياة ثانية عند متقاعدي الدول التي تحترم مواطنيها. في تقييم لوضع أصحاب السن الثالثة بالجزائر، أوضح عدد من علماء الاجتماع أنه بحلول 2030 ستشهد الجزائر بلوغ 20 بالمائة من سكانها مرحلة الشيخوخة، وهو ما يعني، حسبهم، أن مجتمعنا مرشح للشيخوخة بما تحمله العبارة من سلبيات، إذ يكفي أن نتعرّف على يوميات هذه الفئة لنقف على مدى الفراغ الذي يعيشه هؤلاء، الذين هم آباؤنا وأمهاتنا وأقاربنا، وبعد سنوات سنصير مثلهم على كل الأصعدة، سواء أتعلق الأمر بحياتهم العائلية، الحميمة وكذا الاجتماعية. كيف يقضي الجزائري المسن، وتحديدا المتقاعد، أيامه بالجزائر؟ توجّهنا بهذا السؤال إلى عدد من المتقاعدين الذين عبّر معظمهم بأن الحياة توقفت عندهم بمجرد بلوغهم سن التقاعد، والذي يعني بالنسبة للغالبية سن اليأس أو الجلوس في قاعة انتظار موعد السفر إلى العالم الآخر. الشارع يجمعهم هروبا من ضجر الزوجات منهم في البيت يتفق عدد كبير من الشيوخ الذين قابلناهم بكل من ساحتي أول ماي والشهداء، على أن ما يمروّن به في هذه الفترة هو الانتحار بعينه، كيف لا ولم تعد لهم حياة متجددة يشعرون معها بالسعادة والسرور. "كيف يمكن أن نحس بالفرحة ونحن نحرم حتى من الاستمتاع بفترة التقاعد بعد جهود أكثر من 30 سنة من العمل”، يقول السيد صالح، عامل سابق بمؤسسة النقل الحضري للعاصمة “إيتوزا”، وأضاف “كنت أمنّي نفسي وأنا خلف مقود الحافلة بأن أمتلك سيارة بعد تقاعدي وأذهب بها رفقة زوجتي للنزهة والاسترخاء مثل الحمامات ومراكز الراحة.. لكن شيئا من هذا لم يحدث”، يضيف محدثنا قائلا “فلا أنا استطعت أن أمتلك سيارة، ولا ظروفي المادية سمحت لي بأن أسافر حيثما أشاء”، لتبقى ساحة أول ماي التي التقينا فيها محدثنا صحبة بعض رفاقه من المتقاعدين، ملاذه اليومي الوحيد، خاصة وأن زوجته وزوجات العديد من أمثاله يرفضن أن يبقى رجالهن طوال اليوم بالبيت ويبعثن بهم للشارع مع أولى ساعات صباح كل يوم. المسجد وإتباع الجنائز والسوق من المتقاعدين الذين صادفناهم في هذا الاستطلاع، وإن أخفى تذمره من وضعيته غير الطبيعية مقارنة مع ما يجب أن تكون عليه حياتهم لو كانوا في مجتمعات أخرى، من يعترف بسوء تقديره للحياة وأنه لو يعود به العمر إلى الوراء لاختار طريقة عيش أخرى غير التي يحياها الآن. بالنسبة إلى العم عبد القادر، فإنه يقضي يومه يتحين أوقات الصلاة لأدائها في وقتها في المسجد، حيث يلتقي هناك بأترابه وجيرانه وآخرين يأتون من أحياء أخرى. ولأن المساحات المجاورة لأغلبية المساجد تحوّلت إلى مكان لممارسة التجارة، وخاصة بيع الخضر والفواكه، فإن العم عبد القادر يجد متسعا من الوقت لاقتناء ما تطلبه زوجته من أمام المسجد وبأرخص الأثمان في كثير من الأحيان. ومثل سي عبد القادر، يقول الشيخ حسين من حي العناصر: “في هذه السن، لا يوجد لدينا ما نفعله سوى الجلوس في الشارع تحت أشعة الشمس الدافئة. ومثل غالبية الجزائريين، أعيش في شقة ضيقة لا تكفيني وزوجتي وأبنائي وبناتي. أخرج في الصباح أتحسس أخبار جيراني وأقاربي بفضل الهاتف النقال، وأتبع الجنائز إن كنت قادرا، وأزور أصدقائي المرضى”. وداعا لغرفة النوم من جهة أخرى، بات عدد آخر من المسنين محرومين حتى من التمتع بقسط من الراحة ببيوتهم التي امتلأت بالأبناء والأحفاد. وحول هذه المسألة، يقول السيد “محمود.ع” متقاعد من إحدى المؤسسات الوطنية، إنه ونظرا لضيق مسكنه المكوّن من غرفتين وقاعة جلوس وبلوغ ابنيه سن الزواج، عمدت زوجته إلى تزويج ابنيها بالغرفتين حارمة إياه من غرفة نومه، ليجد نفسه مجبرا على النوم بقاعة الجلوس مع زوجته وابنتيه، ليفتح محدّثنا القوس ملاحظا “أجبرت حتى على التقاعد من حياتي الحميمة مع زوجتي”، مضيفا أنه بات يفضّل المكوث بالمسجد حتى بين الصلوات.. “على الأقل أجد مكانا ألجأ إليه عند التعب، وخاصة المعنوي منه. ولعل خير ما عبّر به العم محمد، متقاعد من مراكز “أسواق الفلاّح” سابقا، أن التقاعد بالنسبة إليه مرادف للموت حيا، مستدلا بتفكيك كلمة “متقاعد” إلى مقطعين “موت قاعد”، وهو ما يعني أن كل المجتمع ونمط العيش “حكم علينا بالموت ونحن أحياء”. وعلى وقع نبرات الملل وعدم الاستمتاع برغد العيش، تركنا عمي محمد مع رفاقه متمنين أن تكون سنة 2014 فأل خير عليهم، ليجيبونا بقولهم “آمين”، رغم أن لسان حالهم كان ينطق بواقع كله مرارة وأسى. النفسانية لانية دواودة التقاعد عندنا يعني الموت في حديثها عن الوضع النفسي لفئة المتقاعدين بالجزائر، قالت المختصة في علم النفس لانية دواودة أن أكثر الأمراض النفسية المعنية بها فترة الشيخوخة، تحدث بسبب الوضع الاجتماعي المتمثل في التقاعد عن العمل والعزلة الاجتماعية وتدني الدخل، وكذا زواج الأبناء وابتعادهم عن آبائهم. كما أن الأكثر شيوعا منها، هي أمراض الكآبة النفسية والقلق والخوف من الموت والوسواس القهري والأرق. مضيفة أنه في الوقت الذي تبدأ الحياة بعد التقاعد عند الأوربيين، فيتمتعون بالنزهات والخرجات وتبادل الزيارات مع الأهل الأصدقاء، تتوقف الحياة عند الجزائري الذي رغم عمله الدءوب لسنوات طويلة، يخرج بأجرة لا تسمن ولا تغني من جوع.. لا يعرف حتى كيف يصرفها لضمان قوت يومه، في ظل انعدام تام لمرافق الراحة الخاصة بهذه الفئة. وحول ذات الفكرة، أشارت محدثتنا أنها فكرت منذ مدة رفقة زملاء لها في مسألة فتح دور للشيخوخة مماثلة لدور الحضانة الخاصة بالأطفال، يعمد الأبناء وهم متجهون لأماكن عملهم، إلى اصطحاب آباءهم إليها، على أن يسترجعوهم مساء، وفيها يلتقي المسن مع من هم في سنه، كما تزوّد بورشات منها الخاص بالخياطة وكذا الطبخ وورشة حفظ القرآن والأعمال اليدوية... الخ، والتي من شأنها أن تملأ يوميات المتقاعدين وتقضي على عزلتهم، لكن الفكرة ظلت مجرد مشروع في ظل عدم تطبيقه على أرض الواقع. زيادة على أمراض القلب وهشاشة العظام والسرطان الاكتئاب سمة غالبية المسنين والمتقاعدين تشير آخر الأرقام إلى أن عدد المسنين في الجزائر بلغ أكثر من مليوني شخص، وأن أكثر من نصف هذه الشريحة يعيش بمراكز الشيخوخة. كما بينت نتائج دراسة اجتماعية، أن 40 بالمائة من المسنين بالجزائر يعانون من الاكتئاب والقلق وفقدان الذاكرة، وهو ما أرجعه مختصون في أمراض الأعصاب إلى تلف القشرة الدماغية، والانخفاض الملحوظ للإشارات العصبية المسؤولة عن حفظ التوازن النفسي على مستوى الدماغ، ناهيك عن عديد الأمراض المتعلقة بفترة الشيخوخة والتي يزداد وقعها نتيجة الفراغ الذي تعيشه هذه الشريحة. وعن هذه الأمراض، صرح ل “الخبر” الدكتور فيصل حدّاد مختص في الطب الداخلي، أنها كثيرة، بدءا من أمراض القلب وارتفاع ضغط الدم الشرياني والسكري، والكلى، والكبد، وأمراض السرطان والمفاصل وهشاشة العظام وأمراض الرئة، وكذا ضعف الحواس، خاصة البصرية والسمعية، حيث تضعف الرؤيا عندهم وينقص سمعهم، ناهيك عن الأمراض الناتجة عن تصلب الشرايين، والسبب في ذلك كله يعود إلى التقدم في السن.