روى البخاري ومسلم أنّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: ”ما من مولود يُولَد إلاّ والشّيطان يمسّه حين يولد، فيستهل صارخًا من مسِّ الشّيطان إيّاه إلاّ مريم وابنها”، ثمّ يقول أبو هريرة: اقرأوا إن شئتم {وإنّي أُعيذُها بك وذُرِّيَتَها منَ الشّيطان الرّجيم} آل عمران:36. ورويَا أيضًا قوله صلّى اللّه عليه وسلّم: ”أنَا أولى النّاس بابن مريم، والأنبياء أولاد عَلات، ليس بيني وبينه نبي” (أولاد عَلات: الّذين أمّهاتهم مختلفة، وأبوهم واحد). والمراد أنّ إيمانهم واحد، وشرائعهم مختلفة. وفي صحيح مسلم أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: ”رأى عيسى بن مريم رجلاً يسرق، فقال له: أسرقت؟! قال: كلا، واللّه الّذي لا إله إلاّ هو، فقال عيسى: آمنتُ باللّه، وكذّبتُ عيني”. أي: صدّقت مَن حلف باللّه، وكذّبت نفسي فيما ظهر لي؛ لاحتمال أنّه محق في ذلك. وهذا يدلّ على صفاء نفس عيسى عليه السّلام، وعلى عمق إيمانه، وتعظيمه لخالقه. مولد عيسى عليه السّلام وردت قصّة مولد سيّدنا عيسى عليه السّلام في سورة مريم، الآيات:16-34، وذُكر طرف منها في سورة آل عمران، وذلك قوله سبحانه: {إنّ مثلُ عيسى عندَ اللّه كمَثَل آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُراب ثمّ قال له كُن فيَكُون} آل عمران:59. وإذا غضضنا الطّرف عن حادث خلق الإنسان أصلاً، فإنّ حادث ولادة عيسى بن مريم يكون أعجب ما شهدته البشرية في تاريخها كلّه، فالإنسانية لم تشهد خلق نفسها، وهو الحادث العجيب الضخم في تاريخها! لقد جرت سنّة اللّه في هذه الحياة على التّناسل والتّزاوج بين الذّكر والأنثى أحقابًا مديدة، حتّى استقرّ في تصوّر البشر أنّ هذه هي الطّريقة الوحيدة للتّناسل والتّزاوج، ونسوا الحادث الأوّل، حادث وجود الإنسان؛ لأنّه خارج عن القياس، فأراد اللّه أن يضرب لهم مثل عيسى ابن مريم عليه السّلام؛ ليذكّرهم بقدرته التّامة وإرادته الكاملة، وأنّها لا تحتبس داخل السنن الّتي تختارها. ونظراً لغرابة الحدث وضخامته، فقد صعب على فِرَق من النّاس أن تتصوّره على طبيعته، وأن تدرك الحكمة في إبرازه، فجعلت تضفي على عيسى عليه السّلام صفات ألوهية، وتصوغ حول مولده الخرافات والأساطير، وتتغافل عن الحكمة من خلقه على هذا النّحو العجيب، وهي إثبات القدرة الإلهية. والقرآن الكريم في سورة مريم يقصّ كيف وقع هذا الحدث العجيب، ويبرز دلالته الحقيقية، وينفي عنه تلك الخرافات والأساطير.