يبدو لنا أن الشهادات التي نقلتها ”الخبر” عن المجاهد محمد الصغير هلايلي هي شبيهة إلى حدّ ما بما ورد في مذكراته ”شاهد على الثورة في الأوراس”، الصادرة في 2012، ما يتطلّب فتح النقاش حولها من قِبل المؤرخين والفاعلين التاريخيين الذين يشاركوه الوقائع نفسها التي تناولها، شأنها في ذلك شأن كل الشهادات والمذكرات كي نقترب أكثر من الحقائق، لأنه مع النقاش والحوار تتضح الرؤية أكثر، خاصة أن شهادات هلايلي، مثل الكثير من الشهادات، تحتوي العديد من الالتباسات والمغالطات التي تحتاج تصحيحا لعامة الناس الذين ليس لهم خلفيات تاريخية. فشهادات المجاهد هلايلي في الحقيقة ليست شهادات تاريخية بأتم معنى الكلمة لعدة أسباب ومنها: فقدان عفويتها لأنها تعرّضت لتنقيح كبير- حسب ما يبدو- من صاحبها قبل نشرها، وتعرضت لما نسميه ب«إستراتيجية الخطاب”- حسب مصطلحات ميشال فوكو- فالكلمات والعبارات منتقاة بدقة، ومن جهة أخرى، فباستثناء بعض شهاداته عن عاجل عجول وبعض الشخصيات الثورية والوقائع في الأوراس، فإن الباقي مجرد قراءة لتاريخ الثورة مأخوذ من ضمن الخطابات والقراءات المتعددة لهذا التاريخ. نعتقد أنه كان كفيلا بمجاهدنا تقديم شهاداته فقط حول ما رآه وعايشه دون الخوض في مسائل كان بعيدا عنها، ولا يحق له إصدار أحكام حولها بصفة شهادة، ولهذا يحتاج حواره إلى تفكيك وتمحيص ونقد والبحث عن تقاطعات بين عدة شهادات ووثائق إن توفرت للاقتراب من الحقيقة. ويبدو من أول قراءة أن هدفه إعادة الاعتبار لابن عرشه ”الكميل” عاجل عجول ضمن أبطال من الأوراس ذهبوا ضحية صراعات أثناء الثورة، ونحن لسنا ضد ذلك، ففعلا نرفض تخوين عجول بالإطلاق دون الأخذ بعين الاعتبار الظروف التي جعلته يلجأ إلى السلطة الاستعمارية، ونمحو كل نضالاته، ولدينا الموقف نفسه مع عدة فاعلين تاريخيين، ومنهم مصالي الحاج وغيرهم، وأضيف أكثر من هذا بالنسبة لعجول، وهو عدم تفوهه لهذه السلطة بأسرار هامة عن الثورة، ومنها مخابىء المجاهدين في الأوراس. لكن يؤاخذ على المجاهد هلايلي سعيه لإعادة الاعتبار لشخصيات لا نشك في وطنيتها، مقابل تقزيمه والشك في نوايا أبطال آخرين ينحدرون من مناطق أخرى، الكثير منهم استشهد أو همّش بسبب مواقفه في فتنة 1962، خاصة المنحدرين من الولايتين الثالثة والرابعة، وهل تدخل مواقفه في إطار موقف هذه الولايات ضد الانقلاب على المؤسسات الشرعية للثورة في 1962أم لأسباب أخرى؟ ويحمل الحوار بلبلة والتباسات عديدة تحتاج إلى توضيح، ومنها قوله إن بن بولعيد وبعض إخوانه القادة صفوا بعض الشيوعيين، لأنهم رفضوا طلبه بالتخلي عن أيديولوجيتهم، فهذه مغالطة وتجن عليهم، لأنهم لو فعلوا ذلك لأنهم شيوعيين، لكان حريا بهم التخلي عن جل رفاقهم الذين فجّروا الثورة، وكذلك في الحزب الاستقلالي، لأن الكثير جدا من هؤلاء ذوي ميولات يسارية، وهل كانت تتدخل الخلفية الأيديولوجية في الالتحاق بالثورة وجبهة التحرير الوطني؟ أفلم يكن في الثورة، سواء في القيادات أو القاعدة، توجهات أيديولوجية متعددة ومتناقضة، لكن يشترك الجميع في الإيمان بعزة الجزائر واستقلالها، فالوطنية لم تكن يوما مرتبطة مثلا بالتدين أم لا، كما يريد أن يوحي لنا البعض اليوم مزوّرين للحقائق التاريخية، خاصة البعض من التيارات الأيديولوجية التي أرادت الاستيلاء على رمزية الثورة واحتكارها كرأسمال رمزي. ويبدو أن المجاهد هلايلي ضمن هؤلاء بحكم خلفية انتمائه السياسي قبل 1954.. فكم من متدين خائن وكم من غير متدين شديد الوطنية، والعكس صحيح، فهذا ما يستوجب تصحيحه في ذهن أبنائنا، فثورتنا لم تكن حربا دينية بل ثورة وطنية، فأقوال مثل هذه ليست فقط بعيدة عن الحقيقة، بل تدعم، دون وعي وقصد، الأسس الأيديولوجية للإرهاب الذي اغتال الكثير من خيرة أبناء شعبنا، لا لسبب إلا لأنهم يرونهم شيوعيين ولائكيين وغيرها من النعوت، فهل معنى ذلك أن بن بولعيد ورفاقه مثلهم. لكن أعتقد أنه سوء تعبير، فكان حريا به أن يقول إن الثورة تشترط على الملتحقين بها التخلي عن حزبيتهم والانضمام كأفراد وليس كأحزاب. ومن مغالطات الحوار هو سؤال الصحفي غير الدقيق عمّا أسماه ”تأخر منطقة القبائل عن الانضمام للثورة”، لكن استدرك المجاهد هلايلي ذلك، لكن دون الغوص في التفاصيل، وهو ما يتطلب توضيحا، لأنه سؤال جاء في شكل يحمل في طياته مغالطة، ويزرع البلبلة في ذهن القارىء غير العارف بالتاريخ، ولو أننا نعتقد أن الصحفي لم يقصد ذلك، وكانت مجرد فلتة لسان، فكريم بلقاسم كان في الجبل منذ 1947، وكان حريا طرح السؤال بشكل آخر وهو لماذا لم يلتحق كريم منذ البداية بمجموعة22 وليس بالثورة؟ كي يعرف الناس أنه بقي وفيا لمصالي زعيم الحزب الاستقلالي، على عكس الذين انشقوا عنه، وينطبق الأمر نفسه على بن بولعيد. والتحقت منطقة القبائل بهؤلاء بعد تأكدها من مماطلة مصالي في إشعال فتيل الثورة، لأنه يرى بأنها تحتاج إلى تنظيم واستعداد أفضل، وليس لأنه ضد الثورة كما غرس في ذهنية عامة الناس، خاصة أبنائنا في المدارس، والموقف نفسه كان للمركزيين إلا أنهم التحقوا بجبهة التحرير على عكس مصالي الذي أنشأ ”الحركة الوطنية الجزائرية” المنافسة للجبهة، وقررت إشعال الثورة في 01 جانفي 1955، لكن سبقتها الجبهة إلى ذلك، بل الكثير من أموال وسلاح منطقة القبائل جاءت من حزب مصالي. وعند ذكرنا المدرسة جاءنا إلى الذهن أكذوبة أخرى غرست في ذهن أبنائنا، وهي أن الثورة انطلقت من إحدى المناطق، وأن هناك أطلقت أول رصاصة، فهذا أمر غريب، لأن الذين أشعلوا فتيل الثورة أصروا على أن تبدأ العمليات على ساعة الصفر من يوم 01 نوفمبر1954 في كل مناطق البلاد، فمن أدرانا أي منطقة أطلقت أول رصاصة، فهل هناك فضائيات تنتظر من سيطلقها حتى يقولوا إنها في هذه المنطقة أو تلك؟ ولو أنه نقاش عقيم، لكن هذه المقولة التي تتردد كثيرا في مدارسنا ووسائل إعلامنا لها تأثير سلبي على تماسك أمتنا بإثارة الحزازات، لأنه من الفداحة الترويج لفكرة أن مناطق كانت أولى من مناطق أخرى أثناء الثورة، وهو ما يدفعنا إلى حروب ذاكرة بيننا، فكل الجزائريون ساهموا في الثورة بكل مناطقهم وأطيافهم، فلا فضل لمنطقة على أخرى، فإن كان لمنطقتي القبائل والأوراس عدد أكبر من المجاهدين، كما يقول المجاهد هلايلي، واضطرت فرنسا إلى فرض حالة الحصار على المنطقتين في البداية، فليس ذلك لأنهما أكثر وطنية من الآخرين، بل لظروف أخرى كان على الشاهد توضيحها، ومنها مثلا عدد ونسبة السكان ودرجة تجذر الحزب الاستقلالي فيهما والظروف الطبيعية، ومنها خاصة بقاء المنظمة الخاصة فيها سليمة إلى حدّ ما بعد اكتشافها في 1950، ويجب أن نشير إلى أن أوامر صارمة أعطيت لبعض المناطق آنذاك بعدم التحرك، كي لا تجلب إليها أنظار السلطات الاستعمارية لأنها كانت معابر للأسلحة، فلو قلنا اليوم إنها لم تساهم في إشعال فتيل الثورة فإنه ظلم كبير في حقها، تشبه حالة أبطال الخفاء الذين أمرتهم الثورة بالعمل مع الاستعمار لأهداف استخباراتية، ثم لم يجدوا بعد استرجاع الإستقلال من يشهد لهم بجهادهم، لأن الذين تعاملوا معهم استشهدوا، فبقوا في ذهن الشعب أنهم خونة، فهل هناك تضحية أكبر من تضحية هؤلاء بالشرف والسمعة خدمة للجزائر؟ وقد أبرز فيلم ”أبواب الصمت” لعمار العسكري هذه الظاهرة بجلاء. وشدّ انتباهي قوله إن عبان جعل من العاصمة منطقة مستقلة للسيطرة عليها، ونستغرب لمَ الشك في نوايا البعض ومحاولة تبرير ”استسلام” أو ما اعتبره البعض ”خيانات” كعجول، ما يطرح الشك حول موضوعية صاحب الشهادة، فليدرك أن إنشاء ”منطقة الجزائر المستقلة” يعود لاعتبارات إستراتيجية، فمعروف عن عبان قوله الدائم ”عملية فدائية واحدة في العاصمة أحسن من 100 عملية في الجبال”، وذلك لصداها الإعلامي، لأن هدف الثورة لم يكن قتل الفرنسيين بل إيصال صوتها لتحقيق الاعتراف العالمي بحق أمتنا في تقرير مصيرها، ولهذا كان التركيز على العاصمة، فجاءت معركة الجزائر وإضراب الثمانية أيام لتحقيق كل هذه الأهداف السياسية. فبغض النظر عن الأخطاء التي أرتكبت، فلمعركة الجزائر تأثير كبير في ذلك مثل مظاهرات 11 ديسمبر1960، فكم من معركة كبرى وبطولية جرت في جبال الجزائر لكن لم يكن لها تأثير عالمي مثلما كان لهذه الأحداث في العاصمة. ولا نعلم لماذا نؤاخذ عبان ورفاقه في لجنة التنسيق والتنفيذ على اتصالاتهم السرية مع السلطات الاستعمارية عن طريق الأستاذ موندوز، ولا نؤاخذ بن بلة وزملاءه في الوفد الخارجي لاتصالاتهم السرية مع هذه السلطات في الخارج، والتي فشلت كلها، سواء في الداخل أو الخارج، بسبب التزامهم جميعا دون استثناء بمبادىء في بيان أول نوفمبر وأرضية الصومام، تقول ”لا وقف لإطلاق النار إلا بعد الاعتراف الفرنسي بسيادة الجزائر التامة على كل ترابها”، ورفضهم كلهم طرح فرنسا ثلاثية وقف إطلاق النار ثم انتخابات وبعدها التفاوض حول مستقبل الجزائر. ويظهر في الحوار وجود رغبة لإعطاء مصداقية لما ورد في شهادة محساس ل«الخبر”، والتي أضرته كثيرا بدل إعادة الاعتبار لهذا المجاهد الكبير الذي عانى من التهميش، وسبق لنا تفكيكها في إحدى مقالتنا، فلا داعي للعودة إليها، لكن نريد توضيح مسألة هامة عند قوله مع آخرين إن مؤتمر الصومام زرع البلبلة بتقسيمه المجاهدين إلى سياسيين وعسكريين، فهذه مغالطة يجب تصحيحها، فعندما يوردون بالعربية جملة ”أولوية السياسي على العسكري”، ويعطونها دلالة معينة، فهو غير صحيح، لأن الترجمة من الأصل الفرنسي خاطئة فهي في الحقيقة تقول Le politique وليس le politicien أي بمعنى ”الحقل السياسي”، أي الهدف سياسي وليس عسكري، ثم هل عبان عسكري أم سياسي؟ وقادة الولايات عسكريون أم سياسيون؟ لكن أؤكد على إصرار أرضية الصومام على ”الدولة الديمقراطية والاجتماعية” وفاء لبيان أول نوفمبر، وأكثر من هذا كانت أكثر وفاء لأدبيات الحزب الاستقلالي بقيادة مصالي، فالمشكلة كانت في الترجمة من الفرنسية إلى العربية، خاصة وأن أغلب الوثائق مكتوبة أصلا بالفرنسية، فاستغل البعض الترجمة لزرع الالتباس والتحريض ضد مؤتمر الصومام، ووقع المشكل نفسه مع بيان أول نوفمبر عندما لا تترجم et ب«الواو” فيصبح دولة ”ديمقراطية اجتماعية” بدل ”ديمقراطية واجتماعية”، فالعبارتان مختلفتان تماما في دلالتهما. ونستغرب محاولة صاحب الشهادة إخفاء الفوضى التي سادت في الأوراس بعد استشهاد بن بولعيد، فأراد تحميل المسؤولية لمؤتمر الصومام، وقوله إن المنطقة أقصيت، فمن هذا الذي يجرؤ على إقصاء هذه المنطقة الرئيسية في الجزائر، ويبدو أنه يخفي أن سبب عدم مشاركتها هو عجزها عن تقديم ممثلين لها بسبب هذه الفوضى التي تعود للقبلية والعروشية التي عادت بعد استشهاد هذا البطل العظيم بن بولعيد، والتي هي ليست خاصة بالأوراس، لأن مناطق عدة عرفتها، ولهذا كلف المؤتمر عميروش لحل المشكلة، لكن مجاهدنا يغالط القارىء بإخفاء تلك الصراعات، ونستغرب تكذيبه بالإطلاق لشهادة الجنرال حسين بن معلم الذي رافق عميروش في مهمته، ويريد أن يفرض قراءته التي ليست موضوعية، لأنه كان طرفا في الصراع، فشهادة بن معلم أقرب للموضوعية، لأنه ليس طرفا في صراعات الأوراس، وكل همّه وهمّ عميروش هو استعادة الاستقرار في المنطقة حفاظا على الثورة، خاصة بعدما سكب بن بلة ومحساس الزيت عليها. ونستغرب حديثه عن رسالة، فالمعروف هي رسالة بن بلة عن طريق محساس التي تحرّض الأوراس ضد قيادة الثورة في الداخل، ممثلة في لجنة التنسيق والتنفيذ، وهي الرسالة التي وقعت في يد السلطات الاستعمارية، فحوّلتها إلى أداة في يدها لضرب الثورة معنويا وسياسيا وعسكريا. ويستغرب مجاهدنا لماذا كانت منطقة القبائل هي التي تكفلت بإصلاح ذات البين بين المجاهدين في الأوراس، ويبدو أنه غيّب مسألة هامة جدا، وهي أن بن بولعيد كان يوصي دائما أصحابه باللجوء إلى منطقة القبائل، وبالأخص كريم بلقاسم في حالة وجود أي مشاكل في الأوراس، لأن الكثير لا يعلمون أن الاثنين كانا بمثابة أخوين روحيين، فكان بن بولعيد قبل الثورة يأتي بالأسلحة من ليبيا وهي من بقايا الحرب العالمية الثانية، فيأخذ جزءا للأوراس، وينقل بنفسه جزءا لمنطقة القبائل التي كانت في عمل مسلح آنذاك. كانت هناك ثقة كبيرة بين البطلين لا يمكن وصفها، فحتى إقناع كريم بالانضمام إلى مجموعة 22 كان على يد بن بولعيد من الأوراس، في الوقت الذي فشل ديدوش مراد المنحدر من نفس منطقة كريم في ذلك، فلم يكن التعصب الجهوي موجودا مثل اليوم أين يطل برأسه في كل شيء، وحتى في مسألة الذاكرة، وهو ما يهدد مستقبل أمتنا التي ضحى من أجلها الملايين. ونسجل الملاحظة نفسها بين عبان وبن مهيدي فهما بمثابة أخوين روحيين، لكن ما أستغربته هو قوله المجاهد هلايلي إنه لو بقي بن مهيدي حيا لاختلف مع عبان، فمن أين جاء بهذا التكهّن، فهل يعرف شخصيتهما؟ ولماذا يسعي البعض دائما للفصل بين هذين البطلين والأخوين الروحيين؟