ظاهرة لا تخفى على أحد، وشعار يرفع في وجه كلّ ناصح، وكلّ داعٍ، وكلّ آمرٍ بالمعروف ناهٍ عن المنكر، وكلّ ناقد لسلوك أو مقوّم لاعوجاج: دبّر على روحك.. شفتني غير أنا.. علاه غير أنا اللّي.. كلّ النّاس يفعلون هذا.. إلى آخر هذه العبارات المعبّرة عن الرّوح التّبريرية الكامنة وراءها، والإمعيّة المتستّرة بها، والسّلبية القابعة خلفها. لقد نعى اللّه في كتابه على أقوام هذا المنطق الأعرج وهذا المنهج الأعوج، فقال سبحانه: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللّه قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ}، هكذا هو حال كلّ منحرف سواء في العقيدة أو الخلق أو السّلوك، دائمًا يبرّر انحرافه وغلطه وخطأه بانحراف غيره، مرة آباؤه الأوّلون، ومرّة أهله الأقربون، ومرّة صحبه المقرّبون، ومرّة مَن هم في الانحراف غارقون، ومرّة العصاة الأخسرون! ولا عجب، فقد كانت هذه حجّة كلّ من كذّب بالحقّ إذ جاءه، قال اللّه تعالى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ}. نعم هكذا المآل: انتقام من اللّه القاهر فوق عباده؛ لأنّ ردّ الحقّ جريمة، وتبرير ذلك بفاسد الأعراف وكاسد العادات جريمة أخرى، وهؤلاء رفضوا الحقّ لأنّهم استمرأوا الباطل، ورفضوا الإصلاح لأنّهم اعتادوا الفساد، ورفضوا الهُدى لأنّهم ورثوا الضّلال! بل هو الانقياد الأعمى للموروث والسّائد دون أن ينظروا فيه بعقولهم، وأن يكشفوا عمّا فيه من حقّ أو باطل.. وإنّ هذا لا يكون إلاّ من سفيه أحمق، يعطّل عقله، ويزهد فيه، ويسترخصه. قال السّابقون: إنّا وجدنا آباءنا وأجدادنا، وكثيرون اليوم يقولون: إنّا وجدنا النّاس كذلك يفعلون، ”وهي قولة تدعو إلى السّخرية، فوق أنّها متهافتة لا تستند إلى منطق قويم، ولا توصل إلى الصّراط المستقيم. إنّها مجرد المحاكاة ومحضّ التّقليد، بلا تدبّر ولا تفكّر، ولا حجّة ولا دليل. وهي صورة مزرية تشبه صورة القطيع يمضي حيث هو منساق ولا يسأل: إلى أين نمضي؟ ولا يعرف معالم الطّريق! والإسلام رسالة التحرّر الفكري والمنطق البرهاني لا تقرّ هذا التّقليد المزري، ولا تقرّ محاكاة الغير ولو كانوا الآباء والأجداد اعتزازًا بالإثم والهوى. فلا بدّ من علم، ولا بدّ من حجّة، ولا بدّ من تدبّر وتفكير، ثمّ اختيار مبني على الإدراك واليقين”. ولهذا قال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: ”لَا تَكُونُوا إِمَّعَةً تَقُولُونَ: إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا، وَإِنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا؛ وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا وَإِنْ أَسَاءُوا فَلَا تَظْلِمُوا” رواه الترمذي. ومعنى الإمّعَة: الّذي لا رأي له فهو يتابع كلّ أحد على رأيه. والهاء فيه للمبالغة. فهذا الحديث يبيّن للمسلم واجبه تجاه محاكاة الغير، وتقليدهم ومتابعتهم: بأن يحسن إذا أحسن النّاس ويتعاون معهم على الإحسان والبرّ، ولا يتابعهم في انحرافهم وفسادهم وظلمهم ومعاصيهم؛ لأنّ شيوع شيء من ذلك بين النّاس وتعارفهم عليه- وربما تنافسهم فيه!- لا يغير من حقيقته شيئا.. وهذا ما يجب أن ننتبه إليه وإلى خطورته، وأن نربّي أبناءنا عليه حتّى لا نكون ولا يكونوا إمّعات! لأنّ النّاس أشبه ببيئاتهم منهم بآبائهم. إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة