أعتقد أن محمد أركون هو أهمّ من فتح بابا نقديا واسعا في مقاربة المسائل الشائكة التي تخص الظاهرة القرآنية والإسلامية، باب “الإسلاميّات التطبيقية” كما أسماه. بغضّ النظر عمّا يكتنف مشروعه من نقائص، يكون أركون أول من أنزل البحث في النصّ الديني وتاريخ الإسلام من سماء التمجيد والتهويمات النوستالجية والهوية والدوغمائية، إلى بساط البحث الأكاديمي والعلمي، وهدم بذلك أكبر صنمية مغلقة كانت تدور حولها الأصوليات الدينية والإسلام السياسي. يدعو أركون إلى توظيف المعطيات المهمّة التي وصلت إليها الإنسانيات المعاصرة في مقاربة تاريخ الإسلام والقرآن مقاربة علمية وتاريخية، متّكئا في ذلك على الثورات العلمية التي حققتها اللسانيات المعاصرة والأنثروبولوجيا ومدرسة الحوليات في علم التاريخ، وكذلك نظرية النص والسيميولوجيا ما بعد البنيوية. أي أنه يفتح مجال الإسلاميات التطبيقية على كل حقول البحث المعاصر ولا يحصره في نظرة أحادية كما كان يفعله الفكر العربي والإسلامي قبله. لا يعتبر أركون نفسه مستشرقا، ورغم أنه يشيد بالتبحّر المعرفي للمستشرقين ودورهم الأساسي في التعريف العلمي بوثائق الحضارة الإسلامية، إلا أنه لا يكفّ عن نقد الاستشراق سواء في مداهنته للشعور الإسلامي العام على حساب الحقيقة التاريخية، أو في نزعته الفيلولوجية البحتة في مقاربة وثائق الحضارة العربية الإسلامية، واستغنائه عمّا تفتحه العلوم الإنسانية من فتوحات نظرية كل يوم. في العشرية الأخيرة من حياته، وبعد حادثة سبتمبر 2001، انخرط أركون في تفكير الإسلام بوصفه طرفا في الأزمة العالمية، أزمة التعايش بين الثقافات، وقد رفض موضات الحوار بين الأديان والحضارات، (حوار مسيحي/إسلامي...) “..لا أحب هذه الكلمة، ليس لأني ضد الحوار، ولكن لأنه أصبح يخلع المشروعية على ذاتيتين، على مخيالين اجتماعيين، يدخلان في صدام مباشر على صعيد تصوراتهما الموروثة، في حين ينبغي الغوص في البحث عن الأرضية المشتركة أو الجذر المشترك التي تأسست عليه تلك العقائد، والتي تنفي بعضها البعض” يقول أركون. بدل ذلك يطرحُ ضرورة “التضامن”، أي تحمل مسؤولية تراثنا الديني بشكل متضامن، بدل التحدث عن الحوار الذي يحيلنا إلى مفهوم التسامح الكسول واللامبالي بالرهانات الجديدة لإنتاج المعنى وتحولاته. يبدو أن احتكاك أركون احتكاكا أصيلا بالإسلام أسعفه أيضا في التنبؤ بأحداث الحراك العربي الذي نعيشه منذ سنوات. وقد كتب ذلك برؤية مدهشة سنة 1997، في كتاب “الإسلام، أوروبا والغرب”.