من الأساليب الّتي استخدمها القرآن الكريم من أجل إقامة الحجّة على العباد والدّلالة على وحدانية الله تعالى وعلى صدق ما جاءوا به من رسالات وبلّغوا به دين الله في الأرض: الحوار أو ما يسمّى بالحوار القرآني الّذي يتمكن به المرسلون إلى إيصال الحقّ. الحوار من أحكم الأساليب الّتي تُقنِع العقول بعد إقامة الحجّة عليها، فترضخ القلوب، والحوار عبارة عن نقاش إمّا بين طرفين أو عدّة أطراف، ويهدف إلى الوصول إلى حقيقة، ويُستخدم لدفع شبه أو تهمة وغير ذلك. وبهذا المعنى ورد الحوار في القرآن في عدّة مواضع منها قوله تعالى: {وَكَانَ لَهُ ثُمُر فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَرًا}. وعلّمنا القرآن الكريم آداب الحوار النّاجح، من خلال الابتعاد عن التعصّب للفكرة أو للأمر الّذي ندعو إليه، واستخدام الألفاظ الحسنة مع البُعد عن جرح الآخرين، ومن خلال الاعتماد على حجج صحيحة، والبُعد عن التناقض في الردّ على أقوال الآخر، والثّبات على مبدأ، والتّواضع بالقول والفعل، والإصغاء وحسن الاستماع. منهج الحوار في القرآن تنطلق رحلة المنهج الحواري في القرآن الكريم من بداياته الأولى، فلا بدّ أن يتكافأ الطّرفان من حيث الاستعدادات النّفسية وامتلاك القدرة على الحوار، فكان لا بدّ من جملة قواعد من أهمّها: -الابتعاد عن الأجواء الانفعالية، فمن عوامل نجاح الحوار أن يتمّ في الأجواء الهادئة، ليبتعد التّفكير فيها عن الأجواء الانفعالية الّتي تبتعد بالإنسان عن الوقوف مع نفسه وقفة تأمّل وتفكير، قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ، أَنْ تَقُومُوا للهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا، مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّة، إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ}، فاعتبر القرآن اتهام النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بالجنون خاضعًا للجو الانفعالي. -التّسليم بإمكانية صواب الخصم، ولا بدّ لانطلاق الحوار من التّسليم الجدلي أنّ الخصم قد يكون على حقّ. فبعد مناقشة طويلة في الأدلّة على وحدانية الله تأتي هذه الآية من سورة سبأ: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السّمَاءِ والأَرْضِ قُلْ الله، وَإِنَّا أوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أوْ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ}، فطرفا الحوار سواء في إمكانية الهداية أو الضّلال. -التعهّد والالتزام باتّباع الحقّ، فالتّسليم الجدلي بإمكانية صواب الخصم لا يكفي، بل لا بدّ من التعهّد والالتزام باتّباع الحقّ إن ظهر على يديه، حتّى ولو كان على باطل أو خرافة إذا افترض أنّه ثبت وتبيّن أنّه حقّ، قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَد فَأَنَا أَوَّلَ الْعَابِدِينَ}. -ختم الحوار بهدوء مهما كانت النّتائج، فلا بدّ أن يصلوا جميعًا إلى ما التزموا به في بداية الحوار من الرجوع إلى الحقّ وتأييد الصّواب، وفي هذه الحالة ينتهي الحوار كما بدأ دون حاجة إلى التوتر والانفعال، قال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنْ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا برِيءٌ ممَّا تُجْرِمُونَ}. -الإشهاد على المبدأ وعدم تتبّع الأخطاء، وفي آخر الحوار يتمّ إشهادهم على المبدأ والتمسّك، قال الله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}، ولا حاجة في أن يُتابع الخصم على ما بدر منه من إساءات في الحوار، وليكن العفو والصّبر أساسًا وخُلقًا في التّعامل مع الجاهلين، قال تعالى: {خُذْ الْعَفْوَ وَامُرْ بِالْعُرْفِ وَأعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}. المحاور النّاجح إنّ المحاور النّاجح هو الّذي يكون على قدر من العلم والاطلاع، فلا بدّ من أن يكون على علم حتّى يستطيع إقامة الحجّة الحقّة على الآخر، معتمدًا على الأدلة الصّحيحة والبُعد عن الاعتماد على الأقوال التافهة البعيدة عن الصحّة والحقّ. ولا بدّ للمحاور أن توجد فيه سِمة فقه الحوار والكفاءة في الحوار والقدرة على إبطال الفكرة باستخدام كلمات وعبارات جذابة وواضحة لا لبس فيها، بعيدة عن احتمال ورود أكثر من معنى فيها، وأن يكون قويّ التعبير فصيح اللّسان ويحسن البيان. وهذا ما نستنتجه من خلال حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: “إنّما أنا بشر، وإنّكم تختصمون إليّ، ولعلّ بعضكم أن يكون ألحن بحجّته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع منه”. والشّاهد في هذا الحديث هي كلمة “ألحن” وهو الّذي يحسن التّعبير، فقد يزيّن الباطل على صورة حقّ، قال العلاّمة ابن حجر العسقلاني في شرحه لهذا الحديث: ففي هذا الحديث الشّريف أنّ التعمّق في البلاغة، بحيث يحصل اقتدار صاحبها على تزيين الباطل في صورة الحقّ وعكسه، مذموم. آفات الحوار رفع الصّوت، وتهويل مقالة الآخر، وأخذ زمام الحديث بالقوّة، والاعتداء في وصف الآخر، والقول بلا بدليل، والاستعجال في الردّ على الخصم. معرفة دائرة الحوار من الضّوابط القرآنية للحوار أن لا يكون موضوع الحوار قضايا ثابتة في الدّين، فالحوار ليس من قبيل الترف الفكري وحبّ الاستطلاع كالبحث في ذات الله تعالى، فهذا منهي عنه شرعًا، قال تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ والبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً}. وبالجملة كلّ ما يحرم الحديث فيه شرعًا لا يجوز الحوار والجدال مع الآخر غير المسلم في شأنه، قال تعالى: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلاَ تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ}، أمّا إذا كان القصد النّظر في حكمها وأسرارها وبيان ذلك للنّاس فهذا لا حرج فيه. فائدة الحوار كسب حبّ الآخرين والتّواصل معهم، وهو من أدوات التّآلف وتكوين علاقات طيّبة وقويّة مع كلّ المحيطين به، وهو وسيلة للإصلاح بين النّاس وإشاعة روح الحبّ والوُدّ، ووسيلة دعوية ناجحة.