يقول الحقّ سبحانه: {إِنَّ الله يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} العدل هو الإنصاف، وأعلى مراتبه أن تنصف ربّك فتعبُده كما أمَرك، فإنّ الله هو الّذي خلق، وهو الّذي رزق، وهو الّذي يعطي، وهو الّذي يمنع، وهو الّذي تجأر إليه وتقول: يا ربّ، يا ربّ. هذا الإله العظيم هو وحده هو الّذي يستحق أن يعبد، وهو وحده الّذي يستحقّ أن يطيعه خلقه، فأنْصِف إن كنتَ منصفًا، تعلم أن التوحيد هو عين الإنصاف، فعليك أن تنصف مع ربّك سبحانه، وأن تكون عادلاً، فربّك سبحانه الّذي خلق: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ الله، قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لا يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلا ضَرًّا، قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ، أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ، أَمْ جَعَلُوا لِله شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ، قُلِ الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}. عندما تعدل تعلم أنّ الله وحده هو الّذي يستحقّ العبادة، وقد ضرب يحيى بن زكريا عليه وعلى نبيّنا الصّلاة والسّلام مثلاً لقومه بما أمره الله عزّ وجلّ؛ إذ جمع بني إسرائيل وقال لهم: إنّ الله يأمركم أن تعبُدوه وحده ولا تشركوا به شيئًا، ومثل الّذين يشركون بالله كمثل رجل ابتنى دارًا وعمل عملاً وجاء بعامل ثمّ قال له: هذا عملي وهذه داري، فاعمل وأدِّ إليَّ، فكان العامل يعمل ويقبض ويؤدّي إلى غير صاحبه، فأينا يرضى أن يكون عامله كذلك، يعمل في مال صاحبه وبماله ثمّ يُعطي الرّبح والمال للغير، أيعقل هذا؟ لا شكّ أنّ هذا من الظُّلم الّذي ينهى الله عزّ وجلّ عنه. فكُن مقسطًا، وكن عادلاً، واعبد ربَّك سبحانه، وأدِّ إليه ما يريده منك؛ فهو الّذي أعطاك ما سألته سبحانه، فمَن الّذي نسأله في السّرّاء والضّرّاء ونجأر إليه، فينزل علينا الخير ويرفع عنّا البلاء؟ إنّه الله الّذي لا إله إلاّ هو، قال سبحانه: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإلَهٌ مَعَ الله قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ}. فالله يأمرنا أن نعدل مع الخلق فلا نظلم أحدًا، وإنّ أبغض الخلق إلى الله عزّ وجلّ العبد الظّالم: “اتّقوا الظّلم، فإنّ الظّلم ظلمات يوم القيامة، واتّقوا الشحّ، فإنّ الشحّ أهلك مَن كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلّوا محارمهم”، إنّ ربّنا يملي للظّالم حتّى إذا أخذه لم يفلته، اعدل مع أهلك، ومع من تحت يدك، واعدل مع الخلق حتّى تنال عند الله سبحانه وتعالى شرف ذلك يوم القيامة بما ذكره النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في قوله: “إنّ المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرّحمن عزّ وجلّ وكِلْتَا يديه يمين، الّذين يَعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا”، فالمقسطون على منابر يجعل الله عزّ وجلّ لهم كراسي عظيمة مرتفعة يوم القيامة من نور، يُظِلُّهم بِظِلِّه يوم لا ظِلَّ إلاّ ظِلُّه سبحانه. سأل النّبيّ صلوات الله وسلامه عليه جبريل عن الإحسان؟ فقال: “أن تَعبُد الله كأنّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنّه يراك”، فلو أنّ كلّ مسلم راقب ربّه في نفسه، وراقب الله في أهله، وراقب الله في الخَلق؛ فأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، فأعطى الحقوق الّتي عليه، وأخذ ما له لانتفع النّاس، ونزلت البركات من السّماء إلى الأرض. {إِنَّ الله يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} جمعت هذه الآية الدِّين كلّه، لمّا سمِعَها عثمان بن مظعون من النّبيّ صلوات الله وسلامه عليه دخل الإيمان قلبه وانشرح، لمّا استمع لهذه الآية علم أنّه صلّى الله عليه وسلّم صادق لا يكذب، فدخل في دين الله، وذهب إلى أبي جهل يقرأ عليه هذا الّذي نزل من عند ربّ العالمين، لكنّه طمس الله على قلبه فلم يؤمن، فذهب إلى الوليد بن المغيرة يتلو عليه هذه الآية، فإذا بالوليد يعجب، وكان من أكفر النّاس، ولكنّه من أعلم النّاس بالعربية، فلمّا سمع: {إِنَّ الله يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} قال -وهو معجب بهذه الآية-: والله إنّ له لحلاوة، وإنّ عليه لطلاوة، وإنّ أعلاه لمثمر، وإنّ أسفله لمغدق، وما هو بقول بشر. وهذا أكثم بن صيفي حكيم من حكماء العرب أراد أن يأتي النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فمنعه قومه بنو تميم، وقالوا: أنتَ كبيرنا، فلا تذهب إليه، ولكن أرسل إليه غيرك، فأرسل رجلين إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يسألانه، فقالاَ: جئناك من عند أكثم بن صيفي نسألك: مَن أنت؟ وما أنت؟ فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: “أمّا مَن أنا؟ فأنا محمّد بن عبد الله، وأمّا ما أنا؟ فأنا عبد الله ورسوله”، ثمّ تلا عليهم هذه الآية: {إِنَّ الله يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}، فأخذَا ما قاله النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ورجعَا إلى حكيم قومهم أكثم بن صيفي، واستمع لذلك فقال: والله إنّه لكلام حكيم، وإنّه كلام ربّ العالمين وليس بالكذب، أرى لكم أن تكونوا رءوسًا في هذا الأمر ولا تكونوا ذيولاً فيه.