لا يوجد عاشق للفن السابع لم يسمع بالفيلم الكوري "طفيلي" للمخرج بونج جون هو، هذا الفيلم الحائز على أربع جوائز أوسكار (أفضل فيلم وأفضل مخرج وأفضل كتابة سيناريو أصلي، وأفضل فيلم بلغة أجنبية)، لم يكن ليصنع الحدث لولا تأشيرة الدورة ال72 لمهرجان "كان". لقد وقف الفيلم منافسا لعدد كبير من الأفلام العالمية لمخرجين كبار مثل "تارنتينو" و"بيدرو ألمودوفار"، وقد كان على لجنة التحكيم برئاسة المخرج المكسيكي "أليخاندرو غونزاليز إيناريتو" اتخاذ القرار الصحيح دون عواطف أو حسابات خارج العملية الفنية. كيف دار النقاش في كواليس لجنة التحكيم، وما الذي جعلها تراهن على هذا العمل دون غيره، كل هذه الأسئلة وغيرها تجيب عنها الممثلة والمخرجة الفرانكوغينية ميمونا ندياي في هذا الحوار مع "الخبر"، الذي نتحدث فيه أيضا عن مسيرة ممثلة تلقب ببطلة السينما الإفريقية، وتعتبر أول امرأة إفريقية تشارك في عضوية لجنة تحكيم المسابقة الرسمية لمهرجان "كان". مسار بين السينما الإفريقية والفرنسية، ما هي الأشياء التي دفعت للوقوع في عشق الفن السابع؟ بدأت علاقتي مع هذا العالم الساحر منذ زمن بعيد، كنت حينها في العشرين من العمر، كنت أحلم دائما بأن أحجز لنفسي مكانة في عالم يقدّم إضافة للآخرين، مهنة مختلفة تمنحني تأشيرة السفر بين الناس والجغرافيا وتغيير الأمور، الاختيارات الأولى في حياتنا تبدأ بالدراسة. عندما تحصلت على شهادة البكالوريا، قررت الالتحاق بكلية الطب في فرنسا، إنه عالم إنساني عظيم، ولكن وجدت داخلي تخوفا من سنوات الدراسة الطويلة. الاختيارات في الحياة تحتاج إلى الحظ، وقد كان حظي في هذا العالم لقاء جمعني صدفة بالممثل جون روج الذي عرض عليّ فرصة التمثيل في عمل مسرحي، هذا الفنان لم يكن هاو، فقد سبق له العمل مع المخرج المسرحي البريطاني الشهير بيتر بروك، وهذا الأمر شجعني على المشاركة في تلك المسرحية، وقبل ذلك أجريت دورات تدريبية في المسرح في "مقهى الرقص" وهناك بدأت حياتي، في تلك اللحظات على الخشبة وجدت الإجابة "هذا ما كنت أبحث عنه". ومن حظي أن مشروع المسرحية تحوّل إلى عمل سينمائي تم تصويره في السينغال في ديكور طبيعي، وقد قام بإخراج العمل جون كلود كاريير. وهؤلاء الأشخاص الثلاثة شكّلوا بداية قوية لمساري. عندما عدت من السينغال، قررت الالتحاق بالجامعة لدراسة التمثيل المسرحي، هذه المرة بدأت أشعر فعلا أنني أقترب من العالم الذي كنت أحلم به، وبين العمل في المسرح والدراسة، قدت تخصصات في مجال المسرح التوعوي الذي يعني المشاركة في عروضٍ مسرحية في الأحياء لتحسيس الناس بالقضايا التي تهم حياتهم. بعد سنوات من العمل بفرنسا، شعرت بحاجتي للعودة إلى إفريقيا، فقررت العودة وترك كل ما كان متاحا أمامي من خيارات في فرنسا، واخترت الاستقرار في "كوت ديفوار" لمدة عشر سنوات أمارس نفس المسرح التوعوي الذي آمنت به. وبعدما توجهت إلى بوركينافاسو، كان المسرح رفيقي دائما، وكانت السينما شغفي والعمل كمقدمة برنامج ثقافي تلفزيوني، والعمل على الأفلام الوثائقية عن قضايا العائلات في إفريقيا، ولاحقا قمت بتأسيس جمعية خاصة بالمسرح، وأحضّر حاليا لمشروع فيلم روائي قصير.
مسار يتميز بالترحال بين المدن، كيف استطاعت كل مدينة أن تغيّر فيك؟ بالنسبة لي المسرح والسينما لغة عالمية، ولكن الأمر الخاص هو أن كل بلد لديه جانب خاص في رؤية الأمور، الثقافة والعادات قد تختلف، ولكن اللغة الفنية واحدة عندما تأتي في قالب مسرحية أو فيلم، يأخذ الجميع طريقا وحدا، فالفن يخاطب الجميع وعلى الفنان التأقلم مع هذه المعادلة. أعتبر نفسي مواطنة إفريقية محظوظة، فوالدي من أصل سينغالي ووالدتي من نيجيريا، كبرت في غينيا وعشت سنوات، وخضت تجارب مع الحياة في كوت ديفوار وعملت في مالي والنيجر، تقريبا كل دول غرب إفريقيا هي جزء مني بشكلٍ أو بآخر.
كيف كان التوجه إلى عالم الاحتراف في مجال السينما؟ عندما ينظر الناس إلى السينما ويشاهدون صور البساط الأحمر والنجوم وكل ذلك الإبهار والجمال، يعتقدون أن الأمر يأتي بشكل بسيط وأنه هدية سهلة وصلت على طبق من ذهب، ينسى البعض أن خلف كل ذلك الجمال عناء وتعب وحكايات مبكية أحيانا، عالم السينما ليس سهلا والنجومية يسبقها طعم مر في أحيان كثيرة. نحن لا نختار هذا المجال من أجل الإبهار وارتداء الملابس الفاخرة، نختاره لأننا نحمل رسالة كيف يمكن أن نكون ممثلين في المجتمع، أن تقدم إضافة وتساعد الناس على التفكير، أن تكون ممثلا يجب أن تكون أولا صاحب قضية وملتزما برسالة الفن.
هل يعني أنك أكثر ميولا إلى السينما الملتزمة وليس التجارية؟ السينما يمكن أن تكون تجارية وملتزمة في نفس الوقت، من خلالها نوجه رسائل، السينما هي عمل تجاري في الأصل وهذا الأمر، للأسف، ما لم نفهمه في إفريقيا، السينما صناعة وهذا ما نحتاجه مثل مصر التي فهمت اللعبة وأدركت أن السينما مؤسسة تحمل المعلومات والفرجة والثقافة.
كيف هو وضع السينما في بوركينافاسو؟ بوركينافاسو هي واحدة من الدول الإفريقية التي يمكن القول إن بها صناعة سينمائية إلى حدٍ ما، هناك مركز جيد للسينما ومدارس ومهرجانات في السينما، منها مهرجان "فيسباكو"، هي تتطور ليس بنفس معدل تطور الدول الأنجلوفونية في إفريقيا ولكن هناك أمور إيجابية. هناك جيل يحاول تقديم أفلام جيدة وبإمكانيات بسيطة، الدولة أيضا تقوم على مساعدة الأفلام، ليست أرقاما كبيرة ولكنها بداية مقارنة بالسينغال وكوت ديفوار التي تخصص حوالي مليون إلى مليوني أورو لدعم السينما سنويا. الفرق بين الدول الإفريقية، الفرانكوفونية والأنجلوفونية، هو أن الأولى تقوم على صناعة أفلام من أجل بيعها في الخارج من أجل الذهاب إلى فرنسا ومهرجان "كان"، على عكس الدول الأنجلوفونية التي تقوم الصناعة السينمائية فيها على تقديم أعمال للجمهور المحلي ومخاطبة الناس والجمهور القريب، وهذا هو الصحيح الذي يجب أن يكون.
مهرجان "فيسباكو" كان بداية هامة في حياتك وسنة 2015 كانت سنة مميزة في مسارك؟ فعلا هي سنة فريدة في حياتي، هناك بدأت أشعر بالانطلاقة الكبرى، بعد سنوات العمل الطويلة الحصول على جائزة أفضل ممثلة في "فيسباكو" عن دوري في فيلم "عين العاصفة" للمخرج سيكو تراوري، وقد كان أمرا مهما جدا، وقد فزت بنفس الجائزة في مهرجان قرطاج وفي مهرجان "خريبكا" بالمغرب. وكان الفيلم يفوز بجائزة أفضل ممثل كلما سافر إلى المهرجانات، وهذا أمر مهم يعني لي أن السينما لغة العالم، عندما يسافر الفيلم إلى كل تلك الدول المختلفة ويحظى بنفس الاهتمام، فإن هناك رسالة قوية، صحيح نحن لا نقوم بأفلام من أجل الجوائز ولكنها تبقى مهمة في مساري أي ممثل.
بعد تلك التجارب، قفزت مباشرة إلى مكان هام جدا، وصلت مباشرة إلى لجنة تحكيم المسابقة الرسمية لمهرجان "كان" وكنت رفقة المخرج المكسيكي أليخاندرو غونزاليس إناريتو في مهمة عالمية؟ بداية علاقتي مع "كان" كانت عام 2016 عندما فزت بجائزة أحسن ممثلة فرانكوفونية، وبعد عامين قاموا بالاتصال بي للمشاركة كعضو في لجنة تحكيم إحدى المسابقات الرسمية لمهرجان "كان" وذلك عام 2017، ولكن للأسف لم أستطع الذهاب، والأكيد كان ذلك إحساس قاس. وفي عام 2019 وقبل عشر أيام فقط على موعد المهرجان، تلقيت اتصالا من إدارة المهرجان وسألوني هل أنا متاحة لأكون عضوا في لجنة تحكيم مهرجان "كان"، وطبعا وافقت على الفور، وبعد ساعتين من الاتصال وجدت إدارة المهرجان قد قامت بنشر أسماء لجنة تحكيم المسابقة الرسمية والتي كانت تضم اسمي، بمعني أنهم لم يتركوا لي حتى المجال للتفكير (تضحك)، فلا أحد كان سيرفض تلك الفرصة. كنا ثمانية أشخاص وكل واحد منها من ثقافة مختلفة ولغة مختلفة ولكن السينما تجمعنا، كانت فرصة رائعة لتبادل الأفكار والنقاش لساعات حول الثقافات وتقنيات السينما، كيف يمكن تصوير فيلم في هذا البلد أو ذاك، لقد تناقشنا كثيرا حول الأفلام، ربما اختلفنا في باقي الجوائز ولكن اختيار "السعفة الذهبية" وتتويج فيلم "طفيلي" كان بالإجماع.
"طفيلي" بدأ رحلته من "كان" ووصل إلى الأوسكار وأصبح اليوم أول فيلم غير ناطق باللغة الإنجليزية يفوز بأربع جوائز أوسكار، في رأيك لماذا يستحق هذا الفيلم كل هذا الاحتفاء؟ "طفيلي" كان الاستثناء في مسار السينما العالمية لعدة أسباب، القصة بسيطة وتم تصويره بطريقة سينماتوغرافية بمشاهد رائعة وجميلة، وممثلين قاموا بأداء الدور بشكل متقن، لقد شاهدنا الفيلم بعيون "السينفيلي" ولم نركز فقط على التقنية، صحيح نوعية الصورة كانت مهمة، ولكن الأهم روح الفيلم والقصة التي تحكي حكاية عائلتين متناقضتين، الواحدة فقيرة والثانية غنية، وكيف قام المخرج بوضع رابط بينهما، وهذا الأمر أثّر فينا، خاصة لحظات الكوميديا الاستثنائية في الفيلم، لقد كان بالنسبة لنا لحظات سينمائية عطرة متميزة وفريدة من نوعها.
ما هو الفرق بالنسبة لك، أن تكوني ممثلة عضو لجنة تحكيم، أو ممثلة تشارك في المسابقة وتنتظر قرارات لجنة التحكيم؟ هناك فرق كبير جدا، عندما تكون في المسابقة، فإن قلبك يعتصر بالقلق وتنتظر النتائج، تصحو كل يوم على حلم جديد تتمنى أن يتحقق، وبالنسبة لي المشاركة في المهرجان بفيلم هي خطوة جيدة، لأن المهرجان رحلة جديدة للقاء الجمهور، وأن تتوّج تلك الرحلة بجائزة فهذا أمر عظيم، فقط يجب أن تتمتع بروح رياضية. ولكن عندما تكون في لجنة التحكيم فالأمر يختلف، وأنت ملزم بأن تشعر بالآخرين الذين هم زملاؤك وأصدقاؤك وهم في انتظار قراراتك، يجب أن تكون عادلا ومنصفا مع إحساسك، إنه نوع من الاختبار من المسؤولية وليس سهلا على الإطلاق، خاصة عندما أقدم رأيي في أفلام يقف خلفها مخرجون كبار مثل ألمودوفار وترانتينو وجيم جراموش، كل تلك الأسماء الثقيلة التي كانت في المنافسة وتنتظر بفارغ الصبر رأي ممثلة إفريقية في أعمالهم، أليس هذا نوعا من التحدي قد يشبه الخيال عندما تقف لتقديم أداء من تعلمت منهم السينما ومن كبرت على أعمالهم، تحلم بلقائهم يوما ما لالتقاط صورة أو أخذ توقيع منهم.
عندما تكون في مكان بإمكانك أن تغيّر تاريخ مخرج مثل تارنتنو، الذي لم يملك الحظ أمامكم وخرج بخفي حنين من مهرجان "كان" بفيلمه "حدث ذات مرة في هوليوود" الذي شارك فيه ديكابريو وبراد بيت؟ الحصول على جائزة لا يعني الحظ، ولا يعني أن نخدم خدمة لشخص ما نحب، الحصول على جائزة يعني أن يرفع المخرج السقف عالي جدا، وهذا يحتاج إلى عمل مختلف. بالنسبة لترانتينو، فأنا أعتقد أنه هو في حد ذاته جائزة والسينما التي يقدمها ولا تستطيع أن تقدم جائزة لأفلامه المتميزة، إنه ينجز أفلاما حقيقية مختلفة، ينجز أفلاما لا ينجزها إلا هو وهذا يحتاج إلى جائزة لا يتنافس فيها إلا هو، إنها أفلام يمكن تتويجها، هي فوق منطق الجوائز.
مارأيك في النقاش الدائر حول العنصرية ضد أصحاب البشرة السوداء في العالم؟ لا أود التقدم كثيرا في إجابتي، لأنني لا أقيم الآن في فرنسا، أعيش في بوركينافاسو حاليا، وقد اخترت ذلك عن قناعة وأتحمل مسؤولية قراراتي. أنا شخص منفتح على كل الثقافات ومستعدة للمشاركة في الأفلام الجيدة التي تقترح عليّ، سواء كانت فرنسية أو عربية، ومؤخرا شاركت في فيلم مغربي مع المخرجة فاطمة بوباردي، وهو أول روائي طويل في مسارها وأحب المشاركة في تجارب من هذا النوع، خاصة الأفلام الأولى للمخرجين، حيث يكون المخرج أمام اختبار مشترك مع الفريق.