عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: "قال الله: كلُّ عملِ ابن آدمَ له إلّا الصّيام؛ فإنّه لي وأنا أُجزي به..." هذه الإضافة من الله تعالى، إضافة الصّيام إلى ذاته سبحانه إضافة تشريف وتكريم، وقد كرّم الله الصّوم فنسبه إلى نفسه دون العبادات كلّها، لما لهذه العبادة من خاصية لا توجد لغيرها، فالصّيام يُنمّي في نفس الصّائم الرّقابة الإيمانية واستشعار رقابة الله عزّ وجلّ، فالله سبحانه وتعالى قد أحاط بكلّ شيء علمًا، ولا تخفى عليه خافية، قال تعالى: "يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ" غافر:20. استشعار مراقبة الله عزّ وجلّ من المقامات العالية والمراتب السّامية، وقد أصدر عمر قانونًا يمنع غش اللبن، أي أن يخلط بالماء، لكن هل تستطيع عين القانون أن ترى كلّ مخالف محتال.؟.. وقد خرج عمر رضي الله عنه في ظلمة الليل يتفقّد الرعية -كعادته- فسمع امرأة تريد أن تخلط اللّبن بالماء، والبنت تذكّرها بمنع أمير المؤمنين، فقالت الأم: أين نحن من أمير المؤمنين؟ إنّه لا يرانَا، وتردّ البنت: إن كان أمير المؤمنين لا يرانا، فربّ أمير المؤمنين يرانا... هذه الكلمة العظيمة من هذه البنت المؤمنة، جعلت الأمّ تتراجع عن فعلتها. قال عبد الله بن دينار: خرجتُ مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى مكة، فعرّسنا في بعض الطريق-أي نزلنا- فانحدر بنا راع من الجبل، فقال له: يا راعي، بِعْني شاة من هذه الغنم. فقال: إنّي مملوك. فقال -اختبارًا له-: قل لسيدك أكلها الذئب. فقال الراعي: فأين الله؟ فبكى عمر رضي الله عنه، ثمّ غدَا مع المملوك، فاشتراه من مولاه، وأعتقه، وقال: أعتقتك في الدّنيا هذه الكلمة، وأرجو أن تعتقك في الآخرة. الصّيام الشّرعي الإيماني يُربّينا على رقابة الله عزّ وجلّ، وهي من أعظم ما ينبغي أن يستحضر المؤمن، صحيح أنّ المسلم بشر ضعيف يغفل ويسهو ويخطئ، ولكن كلّما استحضر أن الله يراه، كان إلى الله أقرب وأحبّ. ماذا لو استحضر كلّ موظف وكلّ عامل أنّ الله يراه، لما احتاج إلى مراقبة ومحاسبة من هو فوقه، لأنّ الرّقابة البشرية وما معها من كاميرات مراقبة وأجهزة رصد، ستظلّ قاصرة، إذا لم يكن هناك إيمان صادق وضمير حيّ واستحضار لمراقبة الله عزّ وجلّ. الإنسان يخاف من الرّقابة الاجتماعية -من رقابة النّاس- فإذا خرج إلى مكان لا يعرفه أحد فعل ما فعل، وكذلك الطفل حينما يتخلّص من رقابة والديه يفعل ما يريد، ودخل إلى المواقع الإباحية الّتي صارت اليوم متاحة أكثر من أيّ وقت مضى، فلا بدّ من التربية على أساس أنّ الله يرانَا في كلّ مكان وزمان. حتّى ننمّي فيه هذه الرّقابة الإيمانية. روي أنّ رجلًا جاء إلى إبراهيم بن أدهم فقال له: "يا أبا إسحاق إنّي مسرف على نفسي، فاعرض عليّ ما يكون لها زاجرًا ومستنقذًا لقلبي"، قال: "إن قبلتَ خمس خصال وقدرتَ عليها لم تضرّك معصية ولم توبِقك"، قال: "هات يا أبا إسحاق". قال: "أمّا الأولى فإذا أردتَ أن تعصي الله عزّ وجلّ فلا تأكل رزقه". قال: "فمن أين آكل وكلّ ما في الأرض من رزقه؟!"، قال له: "يا هذا أفيحسن أن تأكل رزقه وتعصيه؟!". قال: "لا، هات الثانية"، قال: "وإذا أردت أن تعصيه فلا تسكن شيئًا من بلاده"، قال الرجل: "هذه أعظم من الأولى يا هذا، إذا كان المشرق والمغرب وما بينهما له فأين أسكن؟!"، قال: "يا هذا أفيحسن أن تأكل رزقه وتسكن بلاده وتعصيه؟!"، قال: "لا، هات الثالثة"، قال: "إذا أردت أن تعصيه وأنت تحت رزقه وفي بلاده فانظر موضعًا لا يراك فيه مبارزًا له فاعصه فيه"، قال: "يا إبراهيم كيف هذا وهو مطلع على ما في السّرائر؟!"، قال: "يا هذا أفيحسن أن تأكل رزقه وتسكن بلاده وتعصيه وهو يراك ويرى ما تجاهره به؟!"، قال: "لا، هات الرابعة"، قال: "إذا جاءك ملك الموت ليقبض روحك فقل له أخّرني حتّى أتوب توبة نصوحًا وأعمل لله عملًا صالحًا"، قال: "لا يقبل منّي"، قال: "يا هذا فأنت إذا لم تقدر أن تدفع عنك الموت لتتوب وتعلم أنّه إذا جاء لم يكن له تأخير فكيف ترجو وجه الخلاص؟!"، قال: "هات الخامسة". قال: "إذا جاءتك الزبانية يوم القيامة ليأخذونك هذا إلى النّار فلا تذهب معهم"، قال: "لا يدعونني ولا يقبلون منّي"، قال: "فكيف ترجو النّجاة إذًا؟!". قال له: "يا إبراهيم حسبي حسبي، أنا أستغفر الله وأتوب إليه". ولزمه في العبادة حتّى فرّق الموت بينهما. فالصّيام يربّي الصّائم على التّربية الإيمانية الرّاقية وهو الّذي امتنع عن الطعام والشراب وسائر المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشّمس، شهرًا كاملاً لينال الجائزة. نسأل الله أن يجعل صيامنا وقيامنا زادًا لنا يوم القيامة. *إمام أستاذ رئيسي بمسجد زيد بن ثابت - سيدي بلعباس