في عام 1974، تمتعت بالتفرج على البولشوي في قاعة "حرشة"، بالجزائر العاصمة. ولم تكن الفرقة التي قدمت ذلك العرض الشيّق الكبير إلا جزءا من المجمع الثقافي السوفياتي العتيد. وفي هذه الأيام، تسنى لي أن أتفرج على صفحات الشبكة العنكبوتية على عروض ثقافية لفرقة البولشوي، ومن ضمنها "روميو وجولييت" و"رقصة البجع" وبعض الأنشطة الإبداعية الأخرى. وحمدت الله على أن الشبكة العنكبوتية صارت تطرح أمامنا أروع ما توصل إليه الوجدان البشري في كل مكان من هذه الدنيا. البولشوي هذا، يعني في اللغة الروسية، "الكبير"، أي المسرح الذي أنشئ في عهد القياصرة بموسكو، عام 1725. وكنت أظن أن هذا المسرح في شكله السوفياتي قد اندثر ولم يعد له أثر يذكر، لكنني فوجئت بأن السلطات الروسية الجديدة حافظت عليه، وزادت فيه، ووفرت الدعم المالي والمعنوي الذي يتطلبه كل نشاط ثقافي وإبداعي أصيل. هذا البولشوي ارتحل دائما وأبدا مع أهل الحكم في روسيا، سواء أكانوا قياصرة، أم بلاشفة، أم ممن لهم تطلعات رأسمالية. وبذلك، تكون روسيا قد عادت - أو كادت - إلى حدودها الكلاسيكية، أي تلك التي ترسمت منذ الإمبراطور "بطرس"، والإمبراطورة الكبيرة، "كاترين". ولم تمنع التقلبات السياسية التي عصفت بهذا البلد العظيم من أن يقف على قدميه شامخا في كل مرة. قياصرة روسيا بنوا "البولشوي" في مطالع القرن الثامن عشر، وساروا به قدما إلى الأمام في مضمار الإبداع، وفي فنون الرقص والباليه على وجه التحديد. وجاء الحكام السوفيات، وحافظوا عليه، وأثروه حتى صار علما من أعلام الإنجاز الحضاري الإنساني، تماما مثلما حافظوا على التراث الأدبي والفكري الذي ظهر إلى الوجود في العهد القيصري، وأعني به تراث "بوشكين" و"غوغول" و"تولستوي" و"تشيخوف" و"دوستويفسكي" وغيرهم من الأقطاب. ثم جاء حكام روسيا الجدد، فساروا على نفس النهج، وما زالوا سائرين عليه. تساءلت بيني وبين نفسي وأنا أتفرج على تلك المشاهد البانورامية الخارقة التي تقدمها فرقة البولشوي في كل عام، والتي يجري بثها في أكثر من بلد عبر العالم: وأين نحن من هذا التقليد الفني الجميل؟ وأين العرب كلهم منه؟ فرقة الباليه الوطني الجزائري التي وقفت على قدميها خلال السبعينات من القرن الماضي لم يعد لها ذكر. فرقة "رضا" المصرية للفنون الشعبية صارت خاملة الذكر. فرقة "أمية" السورية التي كانت ذات شأن في تأدية الموشحات والحفاظ عليها، غابت في زحمة التاريخ والحروب الأهلية، وفرقة "السلامية" التونسية التي أدخلت البهجة إلى صدور الناس في الأعياد الدينية وغيرها من المواسم الأخرى، غابت عنّا هي الأخرى. هل كان حتما مقضيا أن نضرب صفحا عن كل ما هو جميل في هذه الأرض العربية؟ هل هناك مسؤولون يضعون نصب أعينهم فكرة التواصل مع ما هو جميل في الأرض العربية كلها؟ وأخيرا وليس آخرا، هل هناك من يستلهم تراث فرقة البولشوي، وينظر نظرة تعقّل إلى الطريقة التي تحافظ بها بعض الأمم على تراثها حتى يقال عنها إنها حافظت على هوياتها حقا وصدقا؟ أم، يا ترى، صار الحديث في هذا الشأن حراما في حرام في الأرض العربية كلها؟