قد يتعرض أي شخص للاعتداء في أية لحظة مما يضطره للدفاع عن نفسه، وهذا الدفاع قد يسفر في بعض الأحيان عن ارتكاب جريمة تزج به في الزنزانة! حينئذ يطوى ملف القضية، لكن لسان حال المعتدى عليه يظل يردد عبارة »أنا برئ ولست مجرما«.. وذلك تحت تأثير ألم مضاعف يقف وراءه الاعتداء الذي تعرض له من جهة والمحاكمة التي انتهت بإدانته من جهة أخرى! وهنا يطرح السؤال تلقائيا: لماذا لا يستفيد الأفراد الذين ارتكبوا جرائم في حالات الدفاع الشرعي بالضرورة من البراءة؟ يعني الدفاع الشرعي أن يلجأ المرء الى القوة لكي يدفع بها اعتداء (جريمة) لم يقع فعلا في صورة تامة نافذة، ولكنه وشيك الوقوع في هذه الصورة، لأن هناك خطر حال وشيك يهدد بالوقوع، أو أن الصورة في مجرى نفاذها فعلا دون أن يتم هذا النفاذ.. وفي كلتا الحالتين لا يتسع الوقت لمن يتهدده الاعتداء بالاحتماء بالسلطة العامة، فلا يجد مخرجا من ان يدرأ الخطر بالقوة، ويعني ذلك عموما ان الامر يتعلق بحق عام يسمح لصاحبه باستعمال القوة الضرورية لدفع كل عدوان عن النفس أو المال او ملك الغير. والحقيقة أن الانتصار للحق المسلوب امر رغبت فيه الشريعة، حيث أجازت الدفاع عن النفس وسائر الحرمات من مال وعرض، نظرا لقوله تعالى : {والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون، وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله، إنه لا يحب الظالمين} (سورة الشورى الآيتين (39) و(40).. وكذلك قوله : {الشهر الحرام بالشهر الحرام فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين} (البقرة (194). كما يقول سبحانه وتعالى في الآية (41) من سورة الشورى: {ولمن انتصر بعد ظلمة، فأولئك ما عليهم من سبيل}. وإلى جانب ذلك ورد في الآية (227) من سورة الشعراء قوله : {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون}. ولا يعد الدفاع الشرعي في بعض الأحيان مجرد حق فحسب، بل قد يكون بمثابة واجب يسهم في إشاعة الأمن والسلام في المحيط الاجتماعي مثل حالات الدفاع عن شخص يراد اختطافه أو امرأة يراد هتك عرضها، لأن المنطق يقول أن الانتصار على الخصم الذي يريد الاعتداء يتطلب الدفاع. وفيما يخص القانون الوضعي، فقد صنف الدفاع الشرعي في خانة الأفعال المبررة، وأقرنه بشرطين أساسيين تضمنتهما المادة (39) من قانون العقوبات، يتمثلان حسب المادة المذكورة في أن يكون الاعتداء حالا وغير مشروع، وأن يكون الدفاع لازما ومتناسبا مع جسامة الاعتداء. وأوردت نفس المادة ان الدفاع مسألة موضوعية يرجع تقديرها الى قضاة الموضوع الذين يتعين عليهم في حالة إثارته والرد عليه بقبوله أو رفضه. كما تشير الى أن توافر شروط الدفاع الشرعي تنفي على الواقعة طابعها الإجرامي، ومنه تمحي الجريمة من الأساس. ورغم أن النص القانوني يوحي بأن الدفاع المشروع يمحو الجريمة كليا، ويسقط بالتالي المسؤولية الجزائية والمدنية معا، إلا أن شهادة بعض رجال القانون كشفت لنا بأن الحالات التي استفادت من البراءة في القضايا التي طرحت على العدالة، على أساس أنها جرائم مرتكبة في حالات الدفاع الشرعي، قليلة نظرا لعدة اعتبارات.. وفي هذا الصدد توضح المحامية نجاة مرناس، أن المادتين (39) و(40) من قانون العقوبات، تنصان على أن الدفاع الشرعي مرتبط بشروط تتمثل في : أن يكون الخطر حالا وأن يكون التناسب في رد الفعل، الوسيلة والنتيجة. مبرزة ان القانون الجزائري يأخذ بالتناسب في النتيجة، وأن السلطة التقديرية للقاضي هي التي يتقرر بموجبها إذا كان المعتدى عليه يستحق الاستفادة من البراءة أو من ظروف التخفيف. وأضافت أن إثبات حالة الدفاع الشرعي مهمة صعبة، خاصة إذا كانت الظروف غامضة.. والملفت أيضا هو أن البعض يتخذون من الدفاع الشرعي مبررا للتحايل على العدالة، وهذه العوامل باجتماعها قد تحول دون تكييف بعض القضايا على أساس كونها دفاعا شرعيا، بحيث أن هذا الأخير يتطلب توفر القرائن القانونية والموضوعية، وكذا الشهود إذا أمكن بوصفهم وسيلة من وسائل الإثبات. ويرى من جهته المحامي (م. ب) أن الدفاع عن النفس والغير والممتلكات، حق مشروع أعطاه القانون السماوي قبل الوضعي، للجميع، غير أن القانون الوضعي المعمول به لا يمكنه بالضرورة إنصاف الأشخاص الذين ارتكبوا جرائم في حالات الدفاع الشرعي، إذ يشكل شرط التناسب في الرد اهم العقبات التي تحول دون ثبوت براءة المعتدى عليه، فالتناسب المطلوب قد يكون ضربا من المستحيل، لأنه لا يعقل ان لا يحرك المعتدى عليه ساكنا عندما يداهمه خطر ما أو أن يضبط درجة ردة فعله لتكون متساوية مع حجم الضرر الذي ألحق به، خاصة في الحالات التي يكون فيها المعتدي امرأة او رجل مسن - مثلا - في حين ان المعتدى عليه رجل شاب، وهي فروق لم يأخذها القانون بعين الاعتبار، مما يصعب مهمة انصاف المظلومين في العديد من القضايا، والتي تتطلب كفاءة القاضي بالدرجة الأولى. وفي سياق متصل، يتفق كل من المحامين رابح سعيداني وسميرة مهدي، على أن المادة القانونية المتعلقة بالدفاع الشرعي لا تؤخذ بعين الاعتبار في أحيان كثيرة، حيث يصعب تبرير الأفعال وتكييفها على انها دفاع مشروع، لأن جرائم الدفاع الشرعي تحدث غالبا في ظروف خاصة كأن تقع في الليل او في منطقة معزولة مما قد يحول دون وجود شهود عيان. كما يكون المعتدي عليه في موقف اصعب عندما يقف اثناء الحاكمة سالما معافى، في حين تكون آثار الضرر الواقع على المعتدي كبيرة جدا، وهذا الامر لا يعمل لصالح المدافع! وأكد المتحدثان أيضا على فكرة ان شرط تناسب الدفاع الشرعي مع درجة الجرم عائق كبير، لا يسمح غالبا بتأكيد براءة الموكل اثناء المرافعة، اذ ان الرد على الاعتداء يكون في معظم الأحيان أقوى، باعتبار أنه يكون في حالة غضب تغيب الوعي بصفة لا تسمح بالتحكم في درجة الرد.. وبناء عليه تعود المسألة في الأخير الى تقدير القاضي الذي يحسم فيها تبعا لنظرته الخاصة إلى الواقعة. وفي اطار هذا الموضوع، ذكر لنا مصدر قضائي آخر، أن معظم المتهمين الذين تتم محاكمتهم، يحاولون عادة اضفاء صفة المظلومين على أنفسهم، أو يصرحون بأنهم ارتكبوا جرائمهم في حالة الدفاع عن النفس للإفلات من الإدانة، مما يجعل قرار القاضي مبنيا على معطيات الجريمة المرتكبة، والتي قد لا تعفي المتهم من العقوبة كلية، فحتى الشريعة التي اعطت حق الدفاع الشرعي للناس، تفرض بالمقابل نوعا من العقوبة المخففة كما هو الحال في حالة القتل دفاعا عن النفس، فرغم كونه جائزا، إلا أنه يقترن بدية صيام شهرين متتاليين، باعتبار أن روح الإنسان غالية.