الدكتور محمد العريبي، هو أستاذ الفلسفة في كلية الآداب بالجامعة اللبنانية، والمشرف على مركز الأبحاث الدراسية والدراسات-حلقة الحوار الثقافي،لديه العديد من المؤلفات من بينها: "موسوعة الديانات الحية"،"موسوعة الديانات المنقرضة"،"فكر ابن رشد"،"المناهج والمذاهب الفكرية والعلوم عند العرب"و"المختار في الفلسفة"وغيرها. "المساء "التقت بالأستاذ محمد العريبي على هامش مشاركته في الملتقى العربي الثاني للأدب الشعبي الذي جرت فعالياته مؤخرا بالمعهد الوطني العالي للموسيقى بالجزائر،وطرحت عليه أسئلة حول اهتمامه بالديانات الوضعية،وكذا عن دور مثقف اليوم في مجتمعه وعن أهمية الثقافة في الجمع بين الشعوب وأسئلة أخرى فكان هذا الحوار: - ألفت العديد من الكتب حول الديانات،ما سر اهتمامك بهذا الموضوع؟ * بدأت مسيرتي بالفكر العربي من خلال الفكر الديني الإسلامي والدراسة الأولى التي قمت بها كانت حول فكر الإمام فخر الدين الرازي الذي توفي سنة 606ه، وكان اهتمامي منذ البداية بالفكر الديني لأننا قد نجد شعوبا من دون حضارة ولكن لا نجد شعوبا من دون دين، لذلك كان هناك تفكير بإنشاء موسوعة حول الديانات الوضعية والسماوية، فكانت مشاركتي بالديانات الوضعية ، هناك توجهين في الاعتقاد إما أن يكون هناك تلقي الوحي(سماوي)أو أن يكون هناك إنتاجا بشريا(وضعي) وكان تركيزي على الديانات الوضعية المنقرضة كالفرعونية البابلية والسومرية والحيّة كالشنتو والبوذية وحاولت أن أتبين المنحى الفلسفي لهذه الديانات سواء المنقرضة أو الحية،وذلك بموسوعتين وهما"موسوعة الديانات الحية" و"موسوعة الديانات المنقرضة"، بالمقابل لم أقم مقارنة بين ماهو منقرض وحيّ من الديانات الوضعية والديانات السماوية لأنني اعتبرت أن هناك مجالين مختلفين بين التلقي والنتاج الفكري البشري، واهتممت كذلك بالفكر الحديث ووضعت كتاب "المختار في الفلسفة" حاولت فيه أيضا أن اربط بين التيارات الفلسفية القديمة والتيارات الفلسفية الحديثة، أما كاختصاص فكان مرحلة القرن الحادي عشر لأنه في هذا العصر تعرض العالم العربي لخطرين كبيرين وهما: خطر حملات المغول والتتار من الشرق وخطر الحملات الصليبية من الغرب وفي هذه الفترة كانت هناك شخصيتين فكريتين عظيمتين وهما فخر الدين الرازي من الشرق وابن رشد من المغرب،واهتممت بما أنتجته هاتين الشخصيتان ولي مؤلف في ذلك وهو"ابن رشد وفلاسفة الإسلام"، وبالنسبة للرازي له كتب في التفسير ،وما بينته أنا هو اتفاقهما رغم اختلافهما الفكري بشكل عام ،ففخر الدين متكلم أشعري وابن رشد فيلسوف ، وما أبرزته هو محاولة هذين المفكرين تنقية ما في فكر كلا منهما من الرواسب جعلته في معارضة مع الآخر، فصفى الرازي علم الكلام لدرجة أنه جعله فلسفة، وصفى ابن رشد الفلسفة الإسلامية لكي يجعلها فلسفة صافية وقال أن الفلسفة لولم تساير علم الكلام لما وقعت في الأخطاء التي وقعت فيها وعلم الكلام عندما لا يساير الفلسفة يصبح فلسفة، فلم يعد هناك فرق بين الاثنين فكل واحد منهما اعتبر أن هناك مسلك وطريق وهو مسألة التوحيد أي اعتبرا أنهما يسلكان لبلوغ غاية واحدة، ولا بأس أن يكون هناك طريقين لبلوغ هذه الغاية ،هذا ما أردت أن أوضحه من خلال اهتمامي بهاتين الشخصيتين،أيضا أريد أن أوضح أن هناك أمرا هاما جدا اعتمده الاثنان وبالأخص عند الإمام الرازي الذي أطلق شعارا جبارا وقال "لن يّكفر أحدا من أهل القبلة" أي مذهب فيلكن كما يكون مادام في النهاية يصب في الإسلام،أي ليس هناك من تكفير، فالخطر الخارجي الذي كان يحدق بالعالم العربي والإسلامي كان يحتم عدم الدخول في عملية التكفير وما شابه ذلك ،وقد نكون حاليا بحاجة إلى مثل ما قرره الرازي ،نعم هذا الأمر هو الذي دفعني إلى الاهتمام بتلك الحقبة من الزمن. أليس من واجب مفكر اليوم إسقاط مثل هذه التعاليم على عصرنا هذا؟ ليس إسقاط ولكن الاستفادة وهنا تحضرني عبارة ابن رشد وهي "الاعتبار"الذي يقصد به ، الانتقال من ضفة إلى ضفة أخرى ومن حال إلى حال والتاريخ عبرة ،وحتى الوحي الإلهي ركز كثيرا على مسالة الاعتبار فقال"اعتبروا يا أولوا الأبصار"وآيات أخرى تصب في نفس المعنى، وحتى القصص الواردة في القرآن جميعها لأخذ العبرة وأي شعب بدون تاريخ هو بدون أسس ينطلق منها،والمهم في كل هذا الاستفادة من هذه التجارب. - وهل تعتقد أننا نعيش في حقبة صراع الأديان؟ لم يكن الصراع أبدا دينيا ولا كان كذلك في يوم من الأيام ،الصراع هو سياسي، الصراع هو الاختلاف على المصالح،على توزيع ثروات هذا العالم ولكن ُيلبس لباسا دينيا ،ففي حقيقة الأمر ليس هناك من خلافات بين الأديان فالقيم الأخلاقية والسياسية عند الشعوب جميعها واحدة ولكن تقال بصيغ مختلفة، ولوكان التركيز على القيم الأخلاقية والسياسية المأخوذ بها عند شعوب العالم لن يكون هناك صراع، وأقصد بالصراع السياسي: المصلحي وليس بمعنى تنظيم أمور الناس، فالسياسة غايتها تنظيم أمور الناس ولكن عندما تخرج عن هذه الوظيفة إلى كيفية استغلال الناس عندئذ يكون هناك الصراع. وأريد أن أوضح أن صاحب المصلحة يخفي مصلحته في صراعات قد تلهم الآخرين أنه لا يبحث عن مصلحته الخاصة ويمرر مصلحته من خلال ذلك وما هو معروف عالميا في أثناء التحريك -والصراع هو شكل من أشكال التحريك- يستطيع صاحب السلطة أن يمرر ما يريد أما في حال الاستقرار والسكون تكون الصفحة بيضاء وأي نقطة سوداء تظهر عليه، فمن مصلحته أن تكون هناك صراعات لأن الصراع يكون مفتعلا وليس أصيلا في الناس بحكم أن الإنسان ميال في طبعه إلى الاستقرار والبحث عن سعادته وهدف السياسة الحقيقي هو تحقيق سعادة الإنسان،وسعادة الإنسان ليست بمفرده ولكن من خلال مجموعة. - ولكن الإنسان في طبعه ميال لتحقيق مصلحته فكيف يتحقق السلم؟ هناك صراع ولكن هذا الصراع اخذ في غير منحاه، الصراع الحقيقي هو صراع الإنسان مع الطبيعة وليس الصراع الإنسان مع الإنسان. - ولكن أليس الصراع الحقيقي هو صراع الإنسان مع ضميره؟ هذا الطرح يأخذ بعدا وجدانيا أكثر، هو مع نفسه بما أنه نتاج مع الطبيعة، والفكر يحاول أن يطوع الطبيعة التي اكتسبها بوجوده لأن تكون بشكل أفضل لا أقول أنه ليس هناك صراع لكن الصراع في منحاه الأصيل والمفتعل، المنتج هو الصراع الأصيل ويجب أن يكون، فالركود هو الموت ولكن الصراع عندما يؤخذ في غير منحاه يصبح مدمرا. - لماذا لم يتغير وضع المثقف العربي منذ العصور البعيدة؟ لماذا يحارب ويتعرض إلى كل هذه الضغوطات ونحن في القرن الواحد والعشرين؟ الفيلسوف والمفكر هو منظر لا يحسن تدبير الأمور من مواقع سياسية ، والسياسي هو الأقدر على اخذ مواقع إدارية في أي دولة من الدول ولكن من طبيعة المثقف والمفكر أنه ناقد ،وصاحب السلطة لا يرغب أن ينتقد أداؤه ومن هنا تبدأ المحاربة بين السياسيين والمثقفين، هذا من جهة و من جهة ثانية هناك الذين يدعون إلى إعادة الماضي لأن يكون الحاضر، بالمقابل من طبيعة المثقف انه تواق إلى المستقبل،هنا أيضا يكمن صراع آخر مع الجهات التي تستحضر الماضي وتريد جعله حاضرا، وبالتالي يكون موقع المثقف إجمالا غير مقبول لا من السياسي ولا من دعاة إعادة الماضي، فيكون في موقف حرج خصوصا أن خطاب المثقف هو بعيد عما في أذهان الناس بينما خطاب الدعاة إلى الماضي سهل لأن كل أمر تجاوزناه يصبح سهلا. هؤلاء يجدون من يقبل خطابهم أكثر من خطاب المثقف،لذلك تكون جماهير الدعاة إلى استحضار الماضي أكبر ومن هنا لكي يستعيد المثقف دوره أكثر في الاستنهاض،والتطوير وبناء حاضر ومستقبل لا بد له أن يفهم ما في أذهان الناس وان يخاطبهم كما قال الإمام علي ابن أبي طالب "حدثوا الناس على قدر عقولهم أو تريدون أن يكذب الله ورسوله"، بمعنى آخر إذا لم يكن هناك خطاب يصل إلى أذهان الناس يكون المثقف في عزلة، ومن بين المشاكل التي يعاني منها المثقف هي أن أطروحاته لا تجد من يحملها من القوى الفاعلة التي نقصد بها القوى الشعبية ومن هنا الاهتمام على سبيل المثال بالشعر الشعبي لأنه قريب من أذهان الناس، وقد يكون له قيمة كبرى وهو يكشف عن معاناة الناس وتطلعاته. - كيف يمكن للمثقف أن ينزل إلى الناس ويصل إلى اكبر شريحة منهم؟ هناك حقيقة من لا ينزل إلى الناس لا يستطيع أن يرتفع معهم ، ولكن لماذا نعتبره أنه ينزل إلى الناس فإذا كان كذلك فهو بالتالي خارج الناس وخارج الناس لن يقبله الناس، فمن هنا لا أقول هبوط بل فهم، فإذا لم أفهم شيء فلا يمكن أن أتعاطى معه. - ولكن ماذا إذا كان علمه وفكره معقدا لا يمكن أن يفهم العامة؟ أي تعقيد؟ عادة عندما تصبح الفكرة واضحة عند المثقف لا تعود معقدة، الغموض هو سبب التعقيد، فالمثقف مطالب بأن يكون الأوسع وليس الأضيق،على المثقف أن يعي أولا ما يريد وأن يخرج من الضبابية التي هي فيه، فالذي غير واضح للبشر لا يعود للبشر ، فهل هو ينّظر للآلهة؟ نعم من الطبيعي أن يفهم الناس الخطاب الموجه إليهم. - وهنا يجب على الجمهور أن تكون له درجة من الوعي؟ المثقف هو المسؤول عن وعي الجماهير ، المثقف وظيفته التثقيف فان لم ينجح في ذلك فهو فاشل وعليه أن لا يعاتب الناس لأنهم لم يفهموه بل يعاتب نفسه أولا لأنه لم يفهم الناس، أحيانا يختبئ المثقف وراء غموضه ليبين انه مختلف عن الآخرين ويطلب أن يصنع له تمثالا للتبرك، فعليه أن يخرج من القوقعة التي وضع نفسه فيها، كما أن المثقف هو صاحب القدرة على التكيف فمن لا يستطيع أن يتكيف مع الواقع فهو ليس بمثقف. - كيف للمثقف اللبناني أن يواجه ما يحدث في بلده الجريح؟ لأتحدث عن لبنان عليّ أن أتناول لبنان في الداخل ولبنان مع الخارج، هناك العدو الصهيوني الممثل في دولة إسرائيل وهناك المسائل السياسية في الداخل، من الطبيعي أن تكون هناك خلافات سياسية وأحزاب وتيارات في البلد ولكنها تأخذ هذه الصراعات الداخلية حدة بسبب التدخلات الخارجية بمعنى أن كل فريق يكون له شمسية ومن الطبيعي ذلك، إنما الصراع الحقيقي يكمن مع العدو الإسرائيلي، ولا بد من الإشارة إلى أن هناك مجموعة كبيرة من المثقفين اللبنانيين استطاعوا القيام ب "ثقافة مقاومة"التي أنزلت إسرائيل من السماء إلى الأرض، لم يعد هناك خطر بوجود الطائرات التي تقصف من فوق مادام هذا القصف لن يحد من عزيمة المقاومين وهم على الأرض، فأجبر الصهيون على القتال على الأرض والمقاوم أقدامه مغروسة على هذه الأرض ولن تتزحزح، هذا الذي أدى -ونفتخر بذلك -إلى ردع إسرائيل بالقيام بأي اعتداء على لبنان، إذن المثقف له دور وقد أداه وانتقل ذلك الدور إلى فلسطين من خلال ماحدث في غزة مؤخرا من إصرار على المقاومة ، فالمثقف الذي لا يسعى إلى مراكز وامتيازات بل إلى عزة وكرامة استطاع أن ينشئ حصانة في لبنان، أما في ما يتعلق بالصراعات السياسية الداخلية فهو أمر طبيعي وأقول أننا نحن الذين نشارك من لبنان في ملتقى الأدب الشعبي ننتمي إلى كل الطوائف وكل الأحزاب التي تتصارع وليس هناك أدنى مشكل. - الثقافة هي منقذ البشرية فلم لا نتخذها دائما سلاحا لنا نحن العرب؟ هي ليست المنقذ للبشرية، هي واحدة لكل الشعوب والثقافة هي الجامع الأخير المتبقي وخط الدفاع الأخير للعالم العربي فلتختلف الأنظمة كما تشاء لأن ثقافتنا هي التي تجمعنا حاليا وهي الحصانة لنا،نعم هي الحصن المتبقي للعالم العربي وبه يستطيع أن يحدد موقف في العالم الحديث . - لماذا لا نختصر الطريق إذن ونعتمد مباشرة على الثقافة؟ عندما أقول ثقافة فأنا لا اقصد فقط الخطاب فالخطاب هو الذي يحضر الأرضية لنشاطات أخرى لذلك ليس هناك ثقافة مقاومة إذا لم أتحصل على السلاح، والمال وعلماء يستطيعون استخدام التقنيات الحديثة، ففي لبنان كان الكثير من طلاب الجامعات والمعاهد التقنية والعلمية يساهمون في الحرب بالكمبيوترات والرادارات ، كما أنه من طبيعة الفكر أنه لا يقول للشيء كن فيكون ، هو يتعامل مع واقع ومن الأمور الممكنة له، فهو يعرف كيف يستغل المعطيات الموجودة حتى ولو أنشئت من الآخرين لمصلحته . لقد كان عدد المقاتلين في لبنان يعدون بالمئات وليس بالملايين وعدد المقاتلين في غزة لا يتعدون المئات ولكنهم استطاعوا أن يواجهوا فليس في البعثرة سيطرة كما انه ليس دائما في الوحدة قوة ومن ذلك كل الشعارات التي كانت تطلق على الوحدة العربية كانت عمليا تهدف إلى التمكن والسيطرة على الشعوب بالمنطقة.فيجب أن نستغل ما يخطط ويبنى لصالحنا.