عشرات الآلاف أدوا صلاة الجمعة قبل مؤخرا داخل مسجد "أيا صوفيا" وفي الساحات المحيطة به وسط حماس جماهيري هائل، لم تؤثر عليه مواقف بعض المعارضة التركية للقرار القضائي باستعادة مسجد "أيا صوفيا" لما كان عليه في الثلاثينيات وقبل أن يُحوّل بقرار قضائي تعسّفيّ لمُتحف، والتي خانها المنطق الوطني والذكاء السياسي فبررت معارضتها، بأنه يضايق الآخرين خارج تركيا ويزعجهم، وهو أسوأ ما يمكن لمجموعة وطنية أن يكون مبررا لمعارضتها. غير أن ما أزعجني هو أن بعض ردود الفعل العربية والإسلامية على استعادة المسجد كانت أمرا مقزّزا مقرفا، حيث بدت كتصرفات نسوة الأزقة تجاه من لا يرضين عنهن، عن حق أو عن حسد وغيرة. ولست هنا لأدافع عن أردوغان، حتى ولو بدا كرجل دولة ناجح فرض نفسه على التاريخ، ومن الطبيعي أن يثير الحسد والغيرة لدى البعض، لكن ما أزعجني هو المنطق المُعوجّ الذي يدعي الغيرة على الإسلام والمسلمين من كثيرين لا يبدو أنهم يقيمون وزنا لشرائع الإسلام وشعائره. وكان من ذلك القول بأنه كان عليه أن يُغلق سفارة إسرائيل أولا، وهو ما ردده بعض جماعة "السفارة في العمارة"، متناسين بأن العلاقات التركية الإسرائيلية لم تكن قرارا بادر به أردوغان وأسقط به الجدار النفسي مع عدوّ الأمة ولكنها كانت جزءا من ميراث العلمانية، التي كان من أكبر مبرراتها ما قام به العرب تحت قيادة لورنس وأجهز على إمبراطورية كانت قد وصلت إلى أرذل العمر. وكان مما يثير السخرية اتهام الرئيس التركي، بأنه يريد استرجاع الخلافة العثمانية والسيطرة على العالم العربي، وكأن ذنبه الحقيقي هو أنه يريد تحقيق رفعة بلاده وازدهارها واستغلال وضعية الذل والهوان التي يعيشها من يعانون اليوم من استعمار داخلي جعل الوطن العربي تجسيدا لتعبير "الزمن الرديء"، على حدّ تعبير الراحل عبد الحميد مهري، الذي ذكرنا بأن للرداءة رجالها. أما بعض ردود الفعل الدولية بما فيها إعلان الكنيسة اليونانية الحداد، فقد أعادت إلى ذاكرتي تعبيرا قاله الرئيس هواري بو مدين في السبعينيات، مضمونه أن الصراع ليس بين الشرق والغرب ولكنه بين الشمال والجنوب (ولن أقول بين النصرانية العبرانية والجنوب بمسلميه ومسيحييه الشرقيين) وهو ما تبلور الآن فأصبح واضحا أن ردود فعل غربية كثيرة بدتْ استمرارا لموقف البابا أوربان الثاني، الذي أطلق الحروب الصليبية في القرن الثاني عشر، ولا يمكن إلا أن تعتبر كموقف عنصريّ ضد الإسلام. ويذكرني موقف البابا فرانسوا بالأمس بما روي يوما عن العقيد معمر القذافي، رحمه الله وغفر له، إثر تحويل الكنيسة المركزية في طرابلس إلى مسجدٍ حمل اسم جمال عبد الناصر. ورغم أنني كنت من أشد الذين هاجموا العقيد الليبي قسوة، قبل وفاته بالطبع، إلا أنني أسجل له مواقف رائعة كنا نأمل أن تتواصل، وألا يقع فريسة لجنون العظمة الذي أصيب به في سنواته الأخيرة، ويتحمل مستشاروه والمستفيدون من ذهبه جانبا كبيرا من المسؤولية في نهايته المأساوية. كان ردّ العقيد يومها على احتجاج الفاتيكان على ما تم في العاصمة الليبية قوله، "هذا من اختصاص هيئة الأوقاف في ليبيا، ويمكنني أن أحاول مساعدتكم ليعدلوا عّن قرارهم شرط أن تبلغ البابا بأن يرجع كل المساجد بإسبانيا والتي حولتموها إلى كنائس، وإذا نجح البابا في مهمته أعدكم بأني سأقف معكم لتعود الكنسية بطرابلس إلى سابق عهدها". وأظن أن عليّ أن أذكر ببعض المعطيات التي عتمت عليها بالطبع جماعتنا ممن أصبحوا أكثر ملكية من الملك ومن ولي العهد في وقت واحد. فما قامت به تركيا هو شأن داخلي محض، كان في واقع الأمر قرارا قضائيا ألغى قرارا قضائيا آخر صدر في منتصف الثلاثينيات، ولم يكن قرار اليوم، قرارا سياسيا اتخذته الحكومة، حتى ولو كانت خلفياته سياسية، لكنه احترمَ منطق الفصل بين السلطات، ظاهريا على الأقل، وهو ما عمِيَت عنه عناصر الاستلاب وحملة مباخر الغرب من المستلبين. ثم إن ما تم تحويله إلى مسجد كان مُتحفا ولم يكن دار عبادة، أي أنه لم يكن كنيسة تمارس فيها الصلوات وانتزعت قهرا من أربابها، كما حدث مع مسجد "كيتشاوة" في الجزائر، الذي بناه حسن باشا في العهد العثماني سنة 1794م، وحوله الدوق "دو روفيغو" إلى كنيسة بعد أن قضى على المئات من الجزائريين الذين لجأوا إليه إثر الغزو الاستعماري، وهذا هو سبب إطلاق اسم "ساحة الشهداء" على الميدان المجاور للمسجد. السلطان التركي المسلم اشترى المبنى بماله الخاص من قساوسته، وأوقفه على جموع المسلمين، والأوقاف الإسلامية لها قدسيتها التي تمنع التنازل عنها أو بيعها لغير هدف لا يقل قدسية عنها، وهكذا أصبحت "أيا صوفيا" مسجدا. من هنا فإن تحويل المسجد إلى متحف كان قرارا باغيا مضادا لدين سماوي، يجب أن يوضع في نفس الإطار الذي أدى إلى إعدام رئيس الوزراء التركي عدنان مندريس، لمجرد أنه تصرف بما رآه زبانية أتاتورك استفزازا لهم، أي سماحه برفع الأذان في المدن التركية، وإعادة المبنى لوضعيته الدينية، حتى ولو اعتبر ظلما، هو محو لآثار ظلم آخر وهذه بتلك. وأعتقد أننا في الجزائر ممن يمكنهم القول بأنه لا عداء لدينا ضد أي دين سماويّ، ورغم العدد المحدود جدا للمسيحيين الحقيقيين في الجزائر فقد كان من بينهم وزير في أول حكومات الرئيس بومدين، وهو المرحوم إسماعيل محروق. وزائر الجزائر سوف يرى كنيسة "السيدة الإفريقية" تتربع على إحدى قمم العاصمة الجزائرية، وسيلاحظ، إن رغب في زيارتها، أنها في وضعية متألقة، وسيعرف أنه تم ترميمها على نفقة الجزائريين، ومنهم مواطنون بسطاء، وسيجد على جدرانها لوحات تسجل أسماء المسلمين الذين ساهموا في الحفاظ على قيمتها الأثرية ودورها الديني. ولعلّي أتساءل عن ردّ فعل عشّاق الفن وحماة المتاحف الذين أحزنهم إلغاء وضعية "أيا صوفيا" كمتحف لو اقترحنا، جدلا، تحويل "السيدة الإفريقية" من كنيسة إلى متحف. لماذا أقول كل هذا؟ لمجرد أنني أخشى فتنة دينية عالمية تعود بنا إلى منطق الحروب الصليبية، لأن المواقف التي تفوح منها رائحة العنصرية الدينية يمكن أن تؤدي إلى تجاوز قانون "نيوتن"، حيث لا يظل ردّ الفعل في حدود قوة الفعل نفسه، بل يتجاوزه أضعافا مضاعفة عندما يعود المسلمون بذاكرتهم الجماعية إلى العصور الغابرة. وعندما تشتعل نار الفتنة سيكون الغرب أول من يدفع الثمن، تماما كما دفعه ويدفعه اليوم نتيجة لتزايد قوافل مهاجرين يغامرون بحياتهم في البحر فرارا من بلادهم الأصلية، والتي ترزح تحت نير الفقر والجهل والمرض والإذلال لأن المستعمر القديم ترك فيها من رجاله من أجهضوا تنميتها، وفرطوا في ثرواتها، واستباحوا حريتها، وجعلوا الاستقلال الوطني مجرد علم يُرفع، ونشيد وطني يُغنّى، وموقع في المنظمات الدولية يضمن العيش لأبواق الاستعمار الجديد. ولقد دعونا كثيرا إلى نسيان الماضي والتطلع نحو المستقبل، لكن الفكر الغربي ما زال يظن أن ما يعيشه عالم اليوم من هدوء عَقدي دليل على أن شعوبنا فقدت ذاكرتها، وأن عملاءه نجحوا في الإمساك بزمام الأمور في بلداننا بحيث دامت السيادة لمنطقهم إلى الأبد، متناسين أن دويلات الحروب الصليبية لم تكمل عدة عقود وذهبت مع ريح الإرادة الوطنية الإسلامية المسيحية، ولم يبق من آثارها إلا تعبير "دار لقمان على حالها". من هنا أسمح لنفسي باستعادة الكثير مما سبق أن قلته عن هذه القضية، والتي أراها الآن جمرات ملتهبة تحت رماد خادع يبدو ما يخفه خامدا، والدور هو على البعثات الديبلوماسية لكل الدول الغربية لكي تقرأ التحذيرات التي نوجهها لكل من يخافون على مصالحهم الاقتصادية بل والسياسية في بلادنا، لكيلا يظلوا كما عشنا ذلك مؤخرا أسرى لأصوات ترتفع من بيننا رضعت لبن المستعمر السابق ولم تفطم بعد، تقنعهم بأنها هي صوت الشعوب المعبر عن تطلعاتها، بينما هم، حسب تعبير سفير فرنسي سابق في الجزائر، مجرد معارضة "سان جيرمان" (الحي الباريسي المعروف) الذين يرددون لقيادات الشمال ما يتصورون أنهم يريدون سماعه، وهو في معظمه من إفراز مخابرات تلقي بذكاء مرحليّ لا يُنكر ويتظاهر بالعفوية، بالعديد من المعلومات والآراء والتوجهات التي يتلقفها الطباخ والسائق والحاجب والحارس والسكرتير من الموظفين "المحليين" في سفارة معينة (ومعظمهم من مناطق معينة، وقد لاحظت عند تحملي مهمة سفارة الجزائر في باكستان أن معظم العاملين في السفارات الأجنبية هم من المنطقة الشمالية الشرقية) وينقل الموظف المحلي ما سمعه إلى بني "دشرته" كأنها اكتشاف سري خطير، وتتحول كل هذه في مستويات أعلى من الصحفيين والسياسيين إلى مادة يلتقطها السفراء والقناصل الأجانب في الحفلات الديبلوماسية، وتتلقفها وزارات خارجيتهم كأنها واقع البلاد. ولا أبالغ في تصور خطر زرع الكراهية واستثارة الأحقاد، فالتقدم العلمي جعل أحداث التاريخ المأساوية تحت تصرف كل مواطن، وكلها قنابل موقوتة وألغام فتاكة، من الخير أن نظل بعيدين عنها، ما استطعنا إلى ذلك سبيلا. وكمثال بسيط، من الحماقة أن تظن مخابر لعبة الأمم بأن ما وجهوا له من تعليمات لدول عربية مسلمة بحذف تاريخ صلاح الدين وعقبة بن نافع وآيات الجهاد من الكتب المدرسية ستحول دون تنامي الكراهية والأحقاد وتحوله إلى "تسونامي" لا يقف في وجهه شيئ، والذي جعل البعض يُذكر منذ أسابيع بوقفة الجنرال "جيرو" الشامتة على القبر الذي يتصور البعض أننا نسيناه، عندما قال: ها قد عُدنا يا صلاح الدين. ولقد حذّرت أكثر من مرة من أن المسلمين في مواجهة المواقف المعادية المتتالية من الشمال، سيتذكرون شيئا فشيئا صيحة البابا أوربان الثاني في نهاية القرن الحادي عشر، لتجنيد المسيحية الغربية ضد الكيان الإسلامي في المشرق العربي، حيث كان الإسلام يتعايش بل ويتعانق مع المسيحية الشرقية، برغم ادعاءات بيزنطة ومبالغاتها. يومها رأى البابا أن العهدة العُمرية تشكل خطرا حقيقيا على نفوذ الكنيسة الكاثوليكية، بفضل الصورة التي أعطتها عن سماحة الإسلام، حيث كان تفهّمُ مسيحيي المشرق لخاتمة الرسالات السماوية وتقبلُ البعض منهم لها خطرا داهما على نفوذ الكنيسة قبل أن يكون تهديدا لقدسية عيسى بن مريم، وهو ما يذكرنا باعتناق الدوناتيين في الجزائر للإسلام نتيجة للقمع الذي مارسته روما في القرن السابع الميلادي، والذي جسّده "قسيس" روماني وُلِد في الجزائر، ومنحته أوربا صفة القداسة ليكون مرجعية مسيحية كاثوليكية، وأصبح القسيس "قديسا" تحت اسم "سانت أوغستان"، ومن هنا يرى كثيرون أن المسيحية الغربية تتعامل بكل حقد وشراسة مع المسيحية الشرقية أو المحلية، ومن الناس هناك من ينسى أن "المسيح بن مريم" ليس باريسيا ولا أمريكيا ولا بلجيكيا. وعندما تلتهب جمرات الفتنة من جديد سيتذكر كثيرون الدوافع والخلفيات وراء جحافل الغزوات الصليبية، فمن باحث من عناصرها عن سلطانٍ إلى هاربٍ من سلاطين، ومن مهووس ديني إلى باحث عن إقطاعيةٍ حرمه منها نظام الإرث في أوربا، ولن يفوتهم التذكير بالمذابح الرهيبة التي عرفتها المنطقة العربية آنذاك، وعلى وجه الخصوص مذابح القدس ومعرة النعمان وعكا، وكان الشعار الذي رفعه الصليبيون "اقضوا عليهم، فالله سيعرف رجاله". وستتناقل الألسن مأساة مذابح يافا في نهاية القرن الثامن عشر على يد نابليون، عندما أعدم عشرات المئات من الأسرى المسلمين والمسيحيين الشرقيين على حد سواء. وسيستعيد كثيرون، بمنطق التحريض، ما واجهته الجزائر في حرب الثلاثمائة سنة ضد الإسبان، وما تعرضت له خلال الغزو الاستيطاني الفرنسي الذي امتد إلى تونس والمغرب وبقية الدول الإفريقية، وكثيرون سيتذكرون ويُذكرون بالغزو الإيطالي الوحشي لليبيا ثم الحبشة، وبممارسات بلجيكا في الكونغو وغيرها. وأذكر دهاقنة الشمال بكلمات الشاعر العربي: أرى تحت الرماد وميض نار ويوشك أن يكون له ضرام. يتبع..