قد تبدو فكرة اختزال الوطن في بناية إحدى التيمات المتداوَلة في أفلام الذاكرة أو الأفلام الاجتماعية ذات الخلفية السياسية، فالموازنة بين ما يحدث في بناية واحدة اختصارا لوطن، فكرة جيدة وُفّق فيها المخرج فؤاد عليوان في فيلمه الروائي الطويل “عصفوري”، الذي اختتم العروض السينمائية ضمن المسابقة الرسمية لمهرجان وهران للفيلم العربي أول أمس بقاعة المغرب بوهران. يبدأ الفيلم بمشهد مصوَّر لسرب حمام يطير بشكل دائري في سماء بيروت القديمة، تعطي شعورا بالحنين إلى الماضي الجميل، يتبعها مباشرة لقطة لإحدى شرفات البناية، ويُكتب على الشاشة بيروت 75؛ أي قبل أيام قليلة من اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية. ولأن المخرج يصوّر البناية في عام 2012 فإن أضمن وسيلة للإيهام هي الاقتراب من البناية قدر الإمكان في لقطات قريبة أو متوسطة مع وجود بعض السيارات القديمة التي تعكس الحقبة الزمنية. ويبدو السرد والإيهام الخاص ببيروت خلال سنوات الحرب الأولى (75 - 82)، أكثر قوة وتماسكا من أجزاء السرد والإيهام الخاصة ببيروت عام 95 بعد توقيع اتفاقية الطائف وبدء إعادة الإعمار. في البداية نتعرف من خلال مشاهد ذات طابع اجتماعي ملوَّن بمسحة طرافة أو استظراف، على الأسر التي تسكن في البناية، والتي أهمها أسرة كريم حفيد أبو عفيفي مالك البناية، المعادل الدرامي للمخرج نفسه، والمكوَّنة من أمه الحازمة ربة المنزل قوية الشكيمة، وأبيه الطيب الحنون وأخته الصغيرة. يعتمد الفيلم على سرد متقاطع يحاول أن يكسر الزمن عبر الفلاش باك سواء القادم من ذاكرة كريم، أو بأسلوب الاستدعاء الحر دون أن يكون عبر ذاكرة أيٍّ من شخصيات الفيلم. عام 1995 يعود كريم إلى لبنان ليواجه بالحديث المستمر عن إعادة الإعمار، ويرى التغير الذي طرأ على البناية خاصة على المستوى الديموغرافي، فالسكان تغيروا، بعضهم هاجر وبعضهم مات، وجاء إلى البناية مهاجرون من مناطق النزاع الطائفي. كاتب مسرحي عجوز مسلم وزوجة مسيحية وابنة طائشة لديها ميول للعهر الفني، تريد أن تغني بجسدها وتسافر إلى حفلات الأمراء في الخليج، والتي نراها تُعجب بكريم من النظرة الأولى وتصعد إلى شقته كي تغويه دون سابق معرفة. وقال المخرج فور انتهاء العرض إن الفيلم يحذّر من خطر دمار البناية؛ فهي مهددة بذلك، قاصدا دمار مدينة بيروت العاصمة اللبنانية بفعل العولمة وانزواء الأفراد كلٌّ في بيته. ولم يعد الناس كما في الماضي يتحدثون إلى بعضهم، مشيرا إلى أنه اعتمد على شيء من سيرته الذاتية في كتابة السيناريو إلى جانب الخيال. وأضاف المتحدث أن القصد من إنجاز هذا العمل السينمائي هو الحفاظ على الذاكرة الجماعية للبلد، دون الحاجة إلى توجيه خطابات سياسية لأي جهة من الجهات، وإنما يريد بعث رسالة السلام. وأكد عليوان بأن لبنان حاليا يتعرض لهجمة شرسة تهدف إلى تدميره من عدة جوانب؛ سواء سياسية، اقتصادية أو ثقافية وحتى الأخلاقية، بعد المحاولات العديدة التي أرادت تحطيمه وتقسيمه عن الآخر، لا سيما أنّ العولمة جعلت الشعب اللبناني يخسر إنسانيته وشخصيته العربية.