يرحل العظماء في صمت، فتدمي لرحيلهم القلوب وتنفطر، وتنزلق العبرات من المقلات حزنا تارة وحسرة تارات أخرى، حزن لأنّه وقع جلل وحسرة لأنّ الراحل عظيم في تواضعه، مخلص في حبه للعلم والمعرفة، بتواضع الكبار رحل عنا شيخ المؤرّخين الجزائريين الأستاذ الدكتور أبو القاسم سعد اللّه أحد أعلام الإصلاح الاجتماعي والديني، الذي وهب عمره خدمة للعلم والمعرفة، حتى غدا قدوة لكل باحث ومرجعا لكل أديب، فرحل وآخر أوراق شجرة 2013 تتساقط تباعا، رحل للأبد لتحتضنه أرض قمار بالوادي الطيبة. رحيل المثقف الموسوعة خلّف الكثير من الحزن في الوسط الثقافي والفكري، حيث تسارع العديد من المثقفين إلى نعيه، وفي هذا السياق أكّد الدكتور أمين الزاوي ل “المساء” أنّ الدكتور أبو القاسم سعد اللّه، كان مثقفا وعالما متواضعا، عبر الحياة الثقافية والأدبية بنوع من التواضع والعيش في الهامش.. كان مثقف الهامش الذي استطاع أن يحوّل هذا الهامش إلى مركز حقيقي ويجلب الأضواء إليه”، وأضاف “يتجسّد في الدكتور سعد اللّه صورة العالم الموسوعي، حيث عاش للعلم والثقافة وزهد في الحياة، ويعدّ الباحث الأكثر تناولا عند الجامعيين في التاريخ، الأدب وعلم الاجتماع، وأنا أشبّهه دائما بابن خلدون، فكان أديبا وشاعرا يبحث في التاريخ بلغة الأديب وعشقه للغة العربية لا مثيل له، ويختلف عن ابن خلدون في شيء واحد هو أن سعد اللّه كان بعيدا عن هاجس السلطان والسلطة”. وبعد أن ذكّر بسفريات الراحل في كافة أصقاع المعمورة باحثا عن النوادر من الكتب وساعيا وراءها، حيث يقضي الليالي باحثا، مصححا ومدقّقا، وجّه الزاوي نداء للمثقفين الجزائريين بأن يقرؤوا كتاب “تاريخ الجزائر الثقافي” بأجزائه التسعة لأن من لم يقرأه لا يمكن له أن يفهم عمق الثقافة الجزائرية، وقال “أدعوهم لأن يكون هذا الكتاب رفيقهم أينما حلوا لأنّه يعتبر القاموس الحقيقي للثقافة الجزائرية”، وختم قائلا “هو نموذج فريد للمثقف المثابر، القوي والشجاع”. من جانبه، اعتبر واسيني الأعرج على موقعه بالفايسبوك وفاة الدكتور سعد اللّه “خسارة كبيرة..وهو من الرجال الذين قليلا ما يجود بهم التاريخ لكن ميراثه سيظل بيننا لأن ما قام به خاصة التاريخ الثقافي الذي لا شبيه له في الجزائر”، وأضاف متحسرا “وسامه الأكبر طلابه ومحبوه.. لهذا أقول خسارة، رجالنا يعملون بجدارة ويموتون بصمت.. أنا حزين جداً على رحيل هذا الرجل العظيم، وحزين لهذه الخسارة وحزين لرحيل صديق غال وأب، أكن له كل التقدير والاحترام..ربما كان واحدا من آواخر جيل لن يتكرّر”. أما الباحث والإعلامي محمد بغداد فكتب على صفحته “وداعا أبا القاسم”، وكتب يقول “يرحل عنا شيخ المؤرخين ودرة المثقفين وعين الباحثين وتاج المحبين لهذا الوطن العزيز الذي منحه من جهده وحبه ووفائه ما وشح به عقول العالمين وسار على درب الرواد المؤسسين”. من أطلق لقب “شيخ المؤرخين الجزائريين” على الدكتور الراحل سعد اللّه لم يطلقه هباء ولا تملّقا بل عن معرفة واستحقاق، فالمتصفّح لسيرته الذاتية لا يمكن له إلاّ أن يقف مذهولا أمام المحطات العلمية والمعرفية التي أثّثت حياة الفقيد فسجلّه حافل بالانجازات والأعمال المتميّزة التي جعلت منه معينا لا ينضب ومرجعا لا يمكن تجاهله أو الاستغناء عنه عند التطرّق للتاريخ خاصة في تخصّصات تاريخ أوروبا الحديث والمعاصر، تاريخ المغرب العربي الحديث والمعاصر، تاريخ النهضة الإسلامية الحديثة والدولة العثمانية منذ 1300م. الأستاذ الدكتور أبو القاسم سعد اللّه الذي رأى النور في أحد أيام عام 1930م بضواحي قمار (وادي سوف) حيث حفظ القرآن الكريم، وتلقى مبادئ العلوم من لغة وفقه ودين، أزاح أطنان الغبار عن تاريخ الجزائر، هو خريج قسم التاريخ بجامعة منيسوتا الأمريكية، تحصّل على الماجستير عام 1956 وعلى الدكتوراه علم 1962، كما درس بكلية دار العلوم في جامعة القاهرة (مصر)، وإضافة إلى اللغة العربية، يتقن اللغة الفرنسية، الإنجليزية، ودرس الفارسية والألمانية. لم ينفك الراحل الذي وشّح ب “وسام المقاوم” على المساهمة النشطة في الثورة الجزائرية عام 1984، ينهل من بحر شتى العلوم والمعارف، ويثري المكتبة الجزائرية والعالمية بمصنفات وإصدارات تعدّ مراجع علمية بامتياز، فألقى بدلوه في الدراسات والشهادات، التحقيق والترجمة، التاريخ، الإعلام والدراسات، الإبداعات والتأملات، البحوث، المقالات، مراجعات وتصدير الكتب. الراحل طبّق مبدأ “خيركم من تعلّم العلم وعلّمه”، فعمل جاهدا على أن ينقل ما اكتسبه طوال عقود من الزمن لمختلف الأجيال التي تمدرست على يديه، فدرّس منذ 1996 “انتشار الإسلام إلى الوقت الحاضر”، “تاريخ الأوقاف والنظم المتصلة بها”، “تاريخ العالم المعاصر”، “التاريخ المعاصر للعالم الإسلامي (من القرن 16 – 19)”، “تاريخ أوروبا الحديث”، «تاريخ أوروبا في عصر النهضة”، “التطوّر الفكري في المجتمعات الإسلامية الحديثة”، “تطوّر ملكية الأرض والضرائب في العالم الإسلامي”، “التغلغل الأوروبي في العالم الإسلامي الحديث 1800 – 1920م”، “التنظيمات الأهلية والحركات العامة المؤثرة في المجتمعات الإسلامية”، «الحج والرحلة في العالم الإسلامي”، “الحركات الاستقلالية والتحرر الوطني في العالم الإسلامي الحديث”، “الحركة الإصلاحية في الدول الإسلامية الحديثة”، “دراسات نقدية للمصادر الأصلية والوثائق الحديثة للعالم الإسلامي”، “الدول الإسلامية الحديثة (القرون 16 – 19م)”، “العلاقات الخارجية للعالم الإسلامي إلى القرن 18م”، «الفرق والمذاهب الإسلامية”، “المؤسسة العسكرية في التاريخ الإسلامي”، “مدخل إلى التاريخ الإسلامي”، «ملكية الأرض والاستثمار في العصر الإسلامي (القسم الثاني)، من القرن 13 إلى 20”، “مناهج البحث الحديث في التاريخ”، “النهضة الإسلامية الحديثة، 1800 – 1924م”. خلّف صاحب الأجزاء التسعة من كتاب “تاريخ الجزائر الثقافي”، العشرات من الأعمال الثمينة التي تغوص في التاريخ والأدب، حيث تناول بالتحقيق “تاريخ العدواني” لمحمد بن عمر العدواني، «حكاية العشاق في الحب والاشتياق” للأمير مصطفى بن إبراهيم باشا، “رحلة ابن حمادوش (لسان المقال)” لعبد الرزاق بن حمادوش، “رسالة الغريب إلى الحبيب”، لأحمد بن أبي عصيدة البجائي، “مختارات من الشعر العربي”، للمفتي أحمد بن عمار، وكذا “منشور الهداية في كشف حال من ادعى العلم والولاية”، لعبد الكريم الفكون، مثلما ترجم “شعوب وقوميات الجزائر”، “الجزائر وأوربا”، “الجزائر في العهد العثماني”، و«حياة الأمير عبد القادر”. كما ترك الفقيد أيضا “أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر” في أربعة أجزاء، “الحركة الوطنية الجزائرية” في ثلاثة أجزاء، “محاضرات في تاريخ الجزائر الحديث (بداية الاحتلال)”، “رائد التجديد الإسلامي، ابن العنابي”، “شاعر الجزائر، محمد العيد آل خليفة”، “شيخ الإسلام داعية السلفية، عبد الكريم الفكون”، “الطبيب الرحالة، ابن حمادوش”، “القاضي الأديب، الشاذلي الفلسطيني”.وفي فئة “إبداعات وتأمّلات”، في جعبة الأستاذ الزائر في كل من أستاذ زائر في جامعتي منيسوتا وميشيقان الأمريكيتين، جامعة الملك عبد العزيز (السعودية)، جامعة دمشق (سورية)، جامعة عين شمس ومعهد البحوث والدراسات العربية (مصر)، ما يقارب 09 أعمال أهمها “أفكار جامحة”، “تجارب في الأدب والرحلة”، “دراسات في الأدب الجزائري الحديث”، “الزمن الأخضر”، “سعفة خضراء” (قصص)، ”في الجدل الثقافي”، و”هموم حضارية”. إلى جانب ما يربو عن سبعة وثمانين بحثا أكاديميا منها “المترجمون الجزائريون وأفريقيا”، “أوّل بيان فرنسي إلى الجزائريين”، “آخر الأعيان أو نهاية الارستقراطية العربية في الجزائر”، “أزمة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين سبتمبر 1954م”، “الحملة الفرنسية على مصر والشام في رأي المؤرخ أبي راس الناصري”، “في النشاط العسكري والسياسي والتجاري للجزائر خلال القرن الثامن عشر”، “العامل الديني في الحركة الوطنية الجزائرية خلال العشرينيات، في وقائع ندوة نجم شمال أفريقيا”، “نظرة الأمريكيين للتاريخ الجزائري”، “بين علماء الجزائر وعلماء اسطانبول”، “منهج الفرنسيين في كتابة تاريخ الجزائر”، “مساهمة بعض الجزائريين في الحضارة الإسلامية”، “أثر الجزائر في الأدب الأمريكي”، “وثائق عن الجزائر في مكتبة جامعة منيسوتا”، “الرحلات الجزائرية الحجازية”، “مدارس الثقافة العربية في المغرب العربي (1830 – 1954م)”، “الشرق والغرب في ثقافة الجزائر الحديثة”، وأيضا “التعامل مع اللغة العربية بالجزائر أثناء الاحتلال الفرنسي”، “تصميم للشعر الجزائري الحديث”، “الغزل في الأدب الجزائري”، “محاولاتنا في النقد الأدبي”، “الاستيطان والاندماج في الجزائر”، وكذا “الأدب الجزائري مؤثراته وتياراته” وغيرها من المراجع البحثية الجادة. وقدّم الرئيس الشرفي لاتحاد الكتاب الجزائريين منذ 1989، طوال مسيرته الكثير من المحاضرات وشارك في العشرات من الملتقيات والمؤتمرات على غرار “تاريخ وحضارة المغرب العربي”، “مصادر تاريخ الجزيرة العربية”، “تاريخ الرياضيات العربية”، الجزائر 1988م، “التراث الفلسطيني”، “إشكالية الكتابة التاريخية”، “كيف تعلم الفرنسيون اللغة العربية في الجزائر؟”، “نظرة الأمريكيين للتاريخ الجزائري”، “الحركة الثقافية والفنية والإبداعية في الجزائر”، “الثورة في العالم الثالث”، “معنى التاريخ” و«الجزائر والقومية العربية”. كما كان للفقيد إسهامات في العديد من الصحف والمجلات الوطنية والأجنبية كالشعب، المجاهد الثقافي، المجاهد الأسبوعي، المساء، مجلة “الآداب”، مجلة الدراسات التاريخية، مجلة الإنسان (باريس، البصائر، مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق، مجلة مجمع اللغة العربية في القاهرة، إضافة إلى مجلة الجيش، مجلة المجلس الأعلى للغة العربية، مجلة البيان، مجلة الثقافة ومجلة سيرتا. ولا تسع هذه السطور أن تفي الدكتور الراحل حقه من التبجيل والعرفان، لأنّ سيرته الأكاديمية ثرية بالأعمال والمواقف التي تزيده مكانة علمية وإنسانية وتجعل منه موسوعة قائمة بذاتها تستحق الدراسة بتأني لنستوفيها حق قدرها وتكون مرجعا لكلّ مهتم بالتاريخ والأدب وعبرة لكلّ طالب للعلم لا تغويه ماديات الحياة لأنّ المثابرة والتواضع كانتا الركيزة التي عاش بها ولها الأستاذ الدكتور أبو القاسم سعد اللّه.