اختلطت دماء الجزائريينوالتونسيين، في فبراير 1958، واختلطت معها روح النضال والكفاح وإرادة التحرر من الاستعمار. واليوم يعيش الشعبان، اللذان ناضلا سويا لدحر الظلم والاستعباد، مرحلة ضخ دماء جديدة في علاقاتهما التي لم تفلح الأحداث يوما في التأثير عليها وزعزعتها والميل بها نحو منحى آخر، غير ذلك الذي رسمته تضحياتهما المشتركة. فالجزائروتونس اليوم تمضيان يدا بيد في طريق المستقبل الذي تبنيه معالم جديدة لحاضر البلدين بكل متغيراته. وتحتفل الجزائروتونس هذه السنة بالذكرى ال56 لأحداث ساقية سيدي يوسف كما اقتضته العادة منذ سنوات، وذلك باستعراض ملاحم هذه البطولة التي كتب حلقاتها رجال ونساء كان إيمانهم راسخا بوحدة الشعبين ووحدة مصيرهما، ولذا لم تكن قنابل سلاح الجو للجيش الفرنسي الاستعماري قادرة على أن تنزع عنهم الروح التضامنية التي ميزت رحلة النضال والكفاح طيلة عقود. بل إن امتزاج دماء الشعبين، لم يزدهما إلا اقتناعا بعدالة القضية التي يدافعان عنها وبضرورة التلاحم أكثر فأكثر من أجل تحقيق الهدف المشترك، واسترجاع الأرض التي اغتصبت بغير وجه حق، ومعها تحقيق حلم أجيال في التحرر وبناء دولة قوية توفر العيش الكريم لأبنائها. وهكذا فإن الألم لم يولد حينها إلا الأمل، برغم العدد الكبير من الضحايا الذين سقطوا شهداء في مجزرة كان عنوانها ملاحقة الثوار الجزائريين اللاجئين إلى إخوانهم بتونس، الذين حموا ظهور المجاهدين وأمنوا لهم الاستقبال والاقامة. فلم تكن للنضال حدود تفرق بين جزائري وتونسي، لان القضية في واقع الأمر كانت مغاربية. فالأكيد أن الجميع أدرك حينها أن تلك الضربات لم تكن إلا انعكاسا للفشل الذي كان يتخبط فيه الجيش الفرنسي، مثلما يذكر به رئيس الجمهورية في رسالته الموجهة للأمين العام لمنظمة المجاهدين بالمناسبة حين قال إن "تلك الأيام العويصة التي نحيي اليوم واحدة منها وهي الذكرى السادسة والخمسين للمجزرة التي اقترفها سلاح الجو الفرنسي في 08 فيفري 1958 وحصد فيها أرواحا تونسية وجزائرية ونسف الديار والمرافق وأباد المواشي ومصادر الرزق بحجة تتبع وملاحقة الثوار الجزائريين بعد أن فشل فشلا ذريعا في تحقيق أهدافه داخل الجزائر وعلى الخطوط المكهربة ذات الضغط العالي التي حاول المحتل أن يفصل بها بين الشعبين الشقيقين". ليؤكد بأن أرواح شهداء ساقية سيدي يوسف تبقى تحوم بيننا، بينما لايبقى لمرتكبي المجزرة إلا العار والخزي في صفحات التاريخ. ولاحق الفشل العملية بالأخص في آثارها وعواقبها، فبدل أن تخلف الخوف والارتباك والتردد، كانت دافعا نحو تعاون أكبر ظهر في استمرار استفادة المجاهدين الجزائريين من الملاذ الآمن فوق الأراضي التونسية التي كانت بمثابة قاعدة خلفية لوضع خطط مواجهة العدو. وتذكر رسالة الرئيس بوتفليقة بهذا من خلال إشارتها إلى أن الجريمة لم تزد الشعبين إلا تصميما وقوة إيمان بالوحدة والمصير المشترك "وما مؤتمر طنجة الذي انعقد في شهر أفريل 1958 أي بعد شهرين من العدوان على الساقية والذي أفضى إلى نية توحيد جهود المغرب العربي الكبير وتطلعات شعوبه إلى الوحدة سوى الرد الصارم غير القابل للاختزال على تلك السياسات". واليوم يقر الجانبان أن وحدتهما وتعاونهما أصبحا أكثر من أي وقت مضى ضرورة قصوى، بالنظر إلى الظروف المحيطة والرهانات المطروحة على الصعيد الجهوي، بعد التغيرات الكبيرة التي شهدتها دول المنطقة وعلى رأسها تونس التي تعيش مخاضا سياسيا جديدا توج مؤخرا بالمصادقة على دستور جديد للبلاد. لذا فإن رئيس الجمهورية أبى إلا أن يبدأ رسالته في هذه الذكرى بالقول إن "التحديات الراهنة تفرض على الجزائروتونس تعزيز تعاونهما والالتقاء على قواعد مشتركة وتشكيل قوى موحدة لمواجهتها"، واختتمها بالقول "حري بنا اليوم أن نعمل بجد واجتهاد على إشاعة هذه المناقب والخصال في أجيالنا لأن المرحلة التي نمر بها في الوقت الراهن حبلى هي الأخرى بتحديات عديدة ومن الخطورة بمكان وتفرض علينا أن نعزز التعاون وأن نلتقي على قواعد مشتركة ونشكل قوى موحدة لمواجهتها والتغلب عليها". ومن منطلق هذا التفكير البراغماتي في إعادة تشكيل العلاقات الثنائية بين البلدين، اختير تاريخ الثامن فبراير ليكون موعدا لانعقاد اللجنة المشتركة الكبرى الجزائرية-التونسية التي ستعكف على إثراء برنامج خاص بتنمية المناطق الحدودية الرابطة بين البلدين. ونجاح مثل هذا المسعى يعد اليوم أكثر من ضرورة بالنظر إلى سعي البلدين المشترك لمحاربة الارهاب واستتباب الأمن في المناطق الحدودية بعدما عرفته من أحداث في الأشهر الماضية. وإن اختلف الزمان والعدو، فإن الجغرافيا تبقى ثابتة ومعها يبقى الوعي بأن البلدين الجارين يتأثران بما يحدث داخلهما من أحداث وتطورات، وهما بذلك محكوم عليهما بالعمل المشترك الدائم وعلى جميع الأصعدة من أجل رفع التحديات لمجابهة كل الأخطار من جهة ولتحقيق العيش الكريم والازدهار للشعبين من جهة أخرى.