يضعنا كتاب ”العقل العلمي الجديد” أمام اعتبارات فلسفية وعلمية مخالفة لتلك الاعتبارات التي كان يقوم عليها العلم الحديث، خصوصا الفيزياء الكلاسيكية التي تتبنى الفروض والمفاهيم الأساسية، وما لبثت أن انهارت أوصاف مجال صلاحيتها نتيجة تقدم العلم. يعتبر الكتاب نقدا نفيسا لما تضمنه من أفكار جريئة ورؤى تحريضية عميقة، حيث رفض كل النظريات والأفكار السائدة منذ أكثر من ألفي سنة، وكان فعلا تأسيسيا لعقل علمي جديد وترجم العديد من الباحثين العرب كلمة (إسبري esprit) بالروح، لكن عند دراسة الأفكار الواردة في الكتاب نجده يتكلم عن العقل لا الروح ولا حتى الفكر، وكلمة الروح تترجم في مواضع أخرى ب: ”l'Âme”، لها معان كثيرة نحو فكر، روح، ذهن، عقلية إلخ .... وهذا دليل مؤكد كما يقول مترجم الكتاب الدكتور جمال الدين قوعيش على أنه مفهوم مشكل حتى في إطاره الغربي، لذلك المصطلح الأقرب والأنسب هو العقل، فكان العنوان ”العقل العلمي الجديد”. ويشير مترجم الكتاب إلى أن هذه الترجمة كانت عملا مضنيا وشاقا، لما تضمنه الكتاب من مصطلحات علمية خاصة. مؤلف الكتاب هو أوليفيي غوي وهو يتناول بطريقة متسلسلة أبرز محاور الإبستيمولوجيا المعاصرة: وظيفة الرياضيات، مسائل الشكلانية، العلاقة بين العلم والواقع، مكانة التجريبية، مسألة المنهج وأخيرا الإشكال المطروح لفكرة العقل العلمي وتاريخه، وتم التعليق على الأمثلة التقنية بالبقاء انطلاقا من تبسيط علمي في متناول الجميع. يقترح هذا الكتاب مقاربة أصلية لوضعية الخيال في الإبستيمولوجيا الباشلارية ويوضح ما تحيل إليه فكرة العقل العلمي من علاقة معقدة بين العلم وموضوع العلم، أي العالم. إن إبستيمولوجيا باشلار لا تؤسس لإقصاء الموضوع القطيعة بين المفهوم والصورة، النظرية والموضوع بمعنى بين طرحي المؤلف باشلار، فهي لاراديكالية ولا نهائية. يرى المؤلف أن الإشكال يتمثل في عملية تحديد السلوك الثقافي الذي سينتج ما يسمى بالعلم، فليس بالإمكان الحديث عن العقل أو الذكاء أو المنطق بصفة عامة لأننا - حسب المؤلف - نجد كل هذه العناصر في معارف ليست بالضرورة علمية، وعليه نسمي عقلا علميا كل تصرف أو سلوك خاص بالمعرفة. يمكن اعتبار العقل العلمي جوهر العقل الإنساني الذي سيبقى قارا وثابتا في قوانينه كما في محتواه، إن العقل العلمي هو كل ما هو عقلاني وأشكال المعرفة الأخرى ستظهر متباينة بسبب صبغتها بالخيالي والاعقلاني. كذلك يمكن اعتبار العقل العلمي كمنهج صارم يمكن تعريفه وتوضيحه دون مرجعية تطبيقية علمية، وهذا موقف ديكارت. يبدو أن الإبستيمولوجيا تعمل على إبعاد مفهوم العقل وهو الأساسي، أي الموضوع الملموس في مقابل اهتمامها بمفاهيم أخرى كالتطبيق العلمي، تاريخ العلوم.... لا تعود الإبستيمولوجيا إلى العقل الإنساني ولا إلى حالة ذهنية، هذا الشيء يمكن أن يقوم به منهج منضو من قبل صاحبه. لا توجد عند باشلار إمكانية وجود علم محض معزول عن مرجعية الصور، فالمفهوم ينزلق باستمرار في الصورة ولا نستطيع الاستغناء عن الخيال، لأن المشكلة تكمن في خلق استعمال منظم دون الخلط بين الصور والمفاهيم. الصورة الجيدة لها إما وظيفة بيداغوجية (فهم وإفهام) وإما وظيفة شاعرية توقعية. يتشكل العلم من الرياضيات ويستعين كذلك بالخيال، ووضعيته اتجاه الفسلفة تبقى غامضة في ابستيمولوجيا باشلار، من زاوية أخرى فهي التي تدخل بمفاهيم وصور مغلوطة في الممارسة العلمية، ومن زاوية أخرى تسمح باستيعاب استعمال متمكن للمجاز والصورة. ليس للعلم أطروحة حول العالم بوجه عام، حول الكلية والكمال، لكن حول صورة خيالية للكلية يمكن أن تتأسس رغبة حول المعرف وبدون هذه الرغبة لا يوجد علم، وعليه فابستيمولوجيا باشلار لا تنكر دور الخيال لكن تقترح أن يستعمل بطريقة منظمة. وللبقاء في عمق باشلار في مؤلفه ”العقل العلمي الجديد”، لا يمكن العودة إلى بقية كتبه ولا إلى مختلف المعلقين والشارحين لها. لا توجد إذا حوصلة شاملة حول فكر باشلار بوجه عام، لكن اغتنم المؤلف هذه الفرصة لمحاولة التعميق في عدد من المحاور التي بدت لنا مهملة في بعض الأحيان؛ مسألة مكانة الخيال في النشاط العلمي، وعلى وجه الخصوص علاقاته مع الرياضيات: مسألة الواقع، الوظيفة البيداغوجية للمؤلف، وفي النهاية الإلحاح على دور الموضوع السيكولوجي في العقل العلمي. أراد المؤلف البقاء في مستوى التبسيط العلمي المناسب، وهو أمر جد حساس بالنظر إلى باشلار الذي يعود دائما إلى الاكتشافات الأخيرة للفيزياء، في وقت صدور الكتاب سنة 1934. يوجد في نهاية الكتاب بيبليوغرافيا للتبسيط العلمي، التي من المفترض أن تسمح بتوضيح أمثلة معطاة من طرف باشلار، الأمر الذي سيسمح بالخروج من إطار التفكير الفلسفي. إن مشروع باشلار لا يتمثل في تخليص العلم من الفلسفة، لكن توضيح مرجعية العلم الفلسفية. هذه المرجعية التي اتسمت بالغموض والتداخل، لأنه أصبح لها مهمتان، فإما أن تملي المفاهيم الفلسفية الإطار والموضوع على العقل العلمي الذي يقوم بترييضها، قياسها واستعمالها (كالزمان، المكان، المادة، السببية وحتى القانون) أو يبقى للمفاهيم الفلسفية دور سيكولوجي يتمثل في السماح للعالم بالحدس واستخلاص التجارب وفق إطار رياضي مجرد (مثلا الطاقة). فالمرجعية الأولى تابعة للعقل العلمي ”القديم”، بينما الثانية للعقل العلمي ”الجديد”. وعليه أصبحت الرياضيات بمثابة منافس للفلسفة في علاقتها مع العلم، والنقاش أصبح يدور ليس على حضور الفلسفة وإنما على كيفية استعمالها. للإشارة، تتمثل خطة الكتاب في 4 أقسام: الفصل الأول يدرس الهندسة أي النموذج الرياضي وعلاقته بالفيزياء. الفصل الثاني يعالج الكتاب الوظيفة الفعلية للنموذج الجديد في الفيزياء المعاصرة. الفصل الثالث يتناول أمثلة حية لإعادة تشكيل وتصحيح بعض المفاهيم الأساسية للفيزياء. وأخيرا في الفصل الرابع، يعيد المؤلف تعريف العقل العلمي بالمقارنة مع مفاهيم المنهج، الطبيعة البسيطة والعقل. العقل العلمي في نهاية المطاف لا هو بمنهج ولا بسلك مفاهيم وليس أيضا بتطبيق تجريبي، إنه قبل كل شيء عقل العالم.