لم يعد من الممكن السكوت أو تجاهل الدور الخطير الذي تلعبه اليوم قناة الجزيرة التي تحولت إلى أداة تحرك لزرع الفوضى الخلاقة للفتن في عالم عربي تتكالب عليه قوى الشر، يراد له أن يتحول إلى ساحة قتال بين الشعوب وحكامها ليتحقق للولايات المتحدة والغرب تحقيق ما عجزت القوى الصلبة عن انجازه. عندما أعلن الصحفي التونسي المعارض السيد بن بريك انه ليس على استعداد لوضع يده مع أولئك الذين دخلوا المشهد التونسي الجديد على ظهر "دبابات الجزيرة" إنما كان يريد لفت انتباه النخبة السياسية التونسية في المعارضة إلى الدور الغامض الذي لعبته قناة الجزيرة في إدارة المشهد الإعلامي حول أحداث تونس. بن بريك لم يكن وحده، فقد استغربت أوساط إعلامية غربية الموقع المتقدم لقناة الجزيرة في أحداث تونس وتساءلت كيف أن الجزيرة دخلت لأول مرة في لعبة ليس وراءها قوى إسلامية، وأنها كانت حاملة لمكبر صوت القوى الموصوفة بقربها من الغرب. في ملف جديد نشا منذ أول أمس، فتحت الجزيرة جبهة جديدة موطنها هذه المرة ملف المفاوضات بين سلطة محمود عباس وإسرائيل بنشر كم هائل من الوثائق السرية لمحاضر جلسات المفاوضات، كشفت كيف كان المفاوض الفلسطيني يقدم التنازل تلو الآخر. وقد ارتفعت أصوات من فلسطينالمحتلة، تتساءل عن الجهة التي سربت الوثائق للجزيرة، وبعد استبعاد أن تكون السلطة هي من سربت الوثائق، فلا يبقى سوى مصدران: إسرائيل والولاياتالمتحدة. قبل أسابيع قليلة كانت الجزيرة قد حولت طاقمها لجهة السودان لانجاز واحدة من أهم التغطيات للاستفتاء في جنوب السودان الذي انتهى بانفصال الجنوب عن السودان، وقد نمضي طويلا في سرد المواقع والأحداث التي وظفت فيها قناة الجزيرة لإحداث أرباك في ربوع العالم العربي لم يكن بوسع أي إعلام غربي معادي للعالم العربي أن ينجح في تفعيله كما فعلت هذه القناة. غير أن اخطر أدوارها كان هذه المرة في مواكبة ما سمي بانتفاضة أو ثورة الياسمين في تونس، وكيف أن القناة استعملت كطرف في تحريك الشارع التونسي على إيقاع القوة العظمى التي كانت وراء الانقلاب من الداخل على بن علي مع الاحتفاظ بالنظام لخدمة مشروع توغل أمريكي بات واضحا في تونس، قد يتخذها كقاعدة متقدمة لضرب الاستقرار في دول المغرب العربي. لقد كانت قناة الجزيرة منذ نشأتها في بلد صغير مثل قطر محكوم بتوازن قوى في المنطقة لا يسمح لدول كبرى مثل السعودية أن يكون لها موقف مستقل عن الولاياتالمتحدة. لقد كانت منذ نشأتها أداة لتفجير التناقضات داخل الدول والمجتمعات العربية في تزامن مريب مع سريان وتنفيذ الأجندة الأمريكية. فالجزائريون يذكرون زمن العشرية الحمراء كيف وظفت معظم الحصص الإخبارية والحوارية لدعم الأعمال الإرهابية، واستقدام شيوخ أفاضل بحجم الشيخ القرضاوي لمنح الغطاء الديني للجماعات الإرهابية. ومازال المراقبون الأكثر حيادا يتساءلون عن سر اختصاص قناة الجزيرة بنشر جميع الرسائل الصوتية والمصورة لقادة القاعدة حتى يومنا هذا. على مستوى إعلامي محض لم يفت الملاحظون ذلك التركيز في سياسة تحرير الجزيرة على الدول الأقل ارتباطا بالولاياتالمتحدة وتحاشيها الخوض في أوضاع دول ومجتمعات الخليج، واخطر من ذلك فان قناة الجزيرة وعبر حصص حوارات منظمة بذكاء تحولت إلى منبر لجلد الإنسان العربي بالترويج لتقارير دولية صادرة عن منظمات دولية تصور العالم العربي حكاما ونخبا وشعوبا وكأنهم مجرد حثالات: حكام فاسدون بالمطلق ونخب جاهلة، إما عميلة أو مرتشية، وشعوب تقبل الهوان الذي لا تقبله شعوب أخرى في المعمورة، حتى أن حصة الاتجاه المعاكس قد تحولت إلى حصة تهريجية تنتقي ضيوفا مختارين لا يترددون في سب الشعوب قبل انتقاد الحكام. ويظهر عبث القناة في استضافة المحاورين لحصصها، تنتقيهم من شتات المعارضات الفاشلة وتمنحهم منابرها لجلد المواطن العربي، وإثارة غرائز الانتقام والثوران على الحكام، وكأن الغاية هي إنتاج الفوضى الخلاقة للفوضى التي وعدت بها كوندوليزارايس عموم العرب، لأن أفضل أداة اليوم لتفعيل الفوضى في هذا العالم العربي المستهدف هي قناة الجزيرة بلا تردد ولا تحامل. المقاومة الباسلة التي أظهرتها الشعوب العربية، وبعض الحكام الشرفاء لحملة إعادة احتلال العالم العربي وتقسيمه، كشفت للولايات المتحدة والغرب أن الحروب والقوة العسكرية لا تكفي لإخضاع الإنسان العربي وان الإعلام الغربي مع قوته لم يكن لينفذ إلى الإنسان العربي ويفعل فيه الأفاعيل كما تفعل اليوم قناة الجزيرة التي بدأنا نقف عند سر نجاتها من بطش الولاياتالمتحدةالأمريكية، لأنها تحولت إلى رأس حربة فتاكة ينبغي للشعوب العربية أن تخشاها على أمنها واستقرارها أكثر مما تخشاه من جيوش أمريكا والغرب. فليس صدفة أن تكون الجزيرة هي القناة العربية الوحيدة التي أشركت في نشر وثائق ويكيليكس التي بدأت الولاياتالمتحدة تخطف ثمارها على تونس , و لبنان , و فلسطين , و غدا في ساحات عربية أخرى , و ليس صدفة أن تكون الجزيرة قد اختصت بتسريبات خطيرة حول ملف المفاوضات بين الفلسطينيين و الصهاينة , و إذا كانت قناة "سي ان ان " , قد استعملت سنة 91 في نقل الرعب الى قلوب العرب , فإن الجزيرة قد اليوم بمشيئة ملاكها و صحفيها , أم عن غير قصد الى قناة لزرع الخوف في نفوس العرب حكاما و شعوبا تحضيرا لتعميم الفوضى و القلاقل و إدخال شعوب غير محضرة و غير مؤطرة سياسيا في ثورات عدمية تأتي على الأخضر و اليابس , و تحولنا الى كيانات فاقدة للمناعة سهلة للهظم و التفتيت كما تريد الولاياتالمتحدةالأمريكية . في مسيرة قناة الجزيرة , و التي أحدثت خرقا في المشهد الإعلامي العربي , بحرفية عالية لا ينكرها عاقل , تابعنا فصولا كثيرة اجتهدت فيها الولاياتالمتحدة و إسرائيل و عموم الغرب لصناعة مصداقية عالية للقناة . فمن التجاوب الغير مسبوق للقيادات الغربية و مصادر الخبر فيها مع القناة الفتية , الى فتح الأراضي الفلسطينيةالمحتلة داخل و خارج الخط الأخضر للجزيرة التي كانت أول قناة عربية تطبع معها إسرائيل قبل أن تجتهد القناة لتطبيع المشاهد العربي مع قادة الكيان الصهيوني , و هم يطلون علينا يوميا من نشرات و حصص الجزيرة , بحجة الرأي و الرأي الآخر . عملية صناعة غدرية لا يطالها الشك للقناة , جرت بمسرحية استهداف مقر الجزيرة , و ما روح عن نية الإدارة الأمريكية في عهد بوش لمقر الجزيرة بالدوحة , و في نفس السياق جر ملاحقة مراسلها في افغانستان بتهمة التخابر مع اصطحاب اللحي الطويلة من القاعدة . علما أن الجزيرة هي القناة الأولى في نقل رسائل القاعدة في الشرق و الغرب , دون ان تطالها اليد الأمريكية الطويلة . لقد أطلت علينا الجزيرة في السنوات الأولى بسياسة تحرير قريبة من تطلعات الإسلاميين , في زمن كانت فيه القوى الإسلامية , هي القوى الوحيدة التي يسمع إليها الشارع العربي , حيث كان اكتتابها للشيخ القرضاوي لتنشيط حصة " الشريعة و الحياة " و تدخله مرات عديدة في الأحداث السياسية , من أهم انجازاتها لأنه منحها غطاءا دينيا و تزكية شرعية تتجاوز حدود العالم العربي . و لأنه في المقابل لم تنتبه الدول العربية الى طبيعة التحولات الجارية في الساحة الإعلامية منذ الثمانينيات من القرن الماضي , فان الجزيرة لم تواجه أية منافسة تذكر لا من القنوات الوطنية التي ارتدت الى أسفل سافلين , و لا من القنوات الخاصة التي فشلت في بناء مصداقية في تعاملها مع القضايا العربية , و تركت الجزيرة مثل القنبرة و قد خلا لها الجو لتبيض و تصفر . قد يلومنا البعض , و يتهمنا بالتهجم على قناة , أجمعت الكثير من النخب العربية المحرومة من الكلمة , على أنها تشكل فضاء التعبير الحر الوحيد في العالم العربي , و قد يكونون على حق , على قدر ما يوحي به المثل العربي " الأعور ملك في مملكة العميان " . ذلك وان سد القنوات التعبير الوطنية و القومية في وجه الحوار المتنوع , و الاختلاف في الاجتهاد , ساعد على تشكيل هذه القناعة عند النخبة العربية تجاه الجزيرة , و توقفت عند طعم " الفضاء الحر " دون أن تلتفت الى ما يمكن أن يخفيه حصان طروادة . و الحال قد يكون القيمون على الجزيرة , بدءا بالمشرفين عليها , و انتهاء بالدولة الحاضنة لها , مجبرين لا متحيزين . و ليس لنا أن نلوم دولة قطر الصغيرة التي وجدت في قناة الجزيرة , ورقة تفاوض ليست متاحة لدولة عربية كبيرة مثل السعودية و مصر و الجزائر و في عالم يؤمن بمبدأ الدفاع عن مصلحة الدولة , فلا لوم على قطر , لكن اللوم يقع أولا و أخيرا على نظامنا العربي الرسمي الذي لم ينتبه الى تغيير طبيعة المواجهة , و إن الإعلام قد أصبح فيها أكثر قوة و أكثر فعالية من الجيوش و ترسانات الأسلحة , و انه بالإمكان , تحجيم دور الجزيرة المهدد اليوم للأمن و الاستقرار في دولنا بتشجيع إعلام وطني له هامش معقول من الحرية مفتوحة للنخب الوطنية المخلصة الغيورة على مصالح الشعوب العربية و التي قبل أن تدخل في مزايدات تحريض الشعوب على حكامها و مؤسسات دولها تبدأ أولا بالاجتهاد لهم لصياغة مشاريع إصلاحية قادرة على معالجة مشاكل الشعوب و الدول . لأنه من السهل اللعب على غرائز الشعوب و آلامها و أوجاعها و الدفع بها الى مغامرات الغير محسوبة و أصعب منه توظف هذه الوسائل العصرية لترقية العقل العربي الواعي القادر على التعامل مع مشاكل العصر و تحدياته .