ما من شك أن الحضارة العالمية مرت بمراحل كثيرة حتى وصلت إلى هذا الشكل المتطور الهائل من وسائل الاتصال والإعلام حيث أصبح الإنسان أسير الوسائل التكنولوجية الحديثة التي دخلت حيثيات حياتنا العملية ،يقول مارشال ماكلوهان أن الاختراعات الهائلة التي شهدها العالم كانت بمثابة المحرك الأساسي للتطور الحضاري العالمي وهو الشيء الذي جعل الإنسانية تختصر بعدها التاريخي والجغرافي في وسائل تكنولوجية ، هذا القول قاله العالم في عهد ثورة التلفزيون ونحن نعيش حاليا عهد الانترنيت والهاتف النقال. لقد غيرت وسائل الاعلام والاتصال من طبائع الناس وسلوكاتهم وقيمهم وجعلت الثقافات تتقارب وتتنوع ، في الوقت ذاته ساهمت في تحرير الشعوب والقوميات من السيطرة والهيمنة التي كانت مفروضة عليهم من قبل السلطات الحاكمة وأصبح بالإمكان للأفراد أن يعبروا عن هواجسهم وأفكارهم وقيمهم وميولاتهم دون رقيب مخيف ، لكن حضارة وسائل الإعلام والاتصال التي نعيش مختلف تجلياتها حاليا مرت بمراحل هامة ساهمت الى حد كبير في ظهور هذا التطور الحضاري فقد مضى وقت طويل حتى توصل اليونانيون في الفترة من القرن الثامن الى القرن السادس قبل الميلاد الى أبجدية اشتملت على حروف متحركة ومن ثم الحصول على نظام جيد يعبر بأمانة عن اللغة المنطوقة. كانت هذه الأبجدية إحدى ثمار المتغيرات الاجتماعية المتعددة التي لحقت باليونان منذ سنة 1100 قبل الميلاد ، تلك المتغيرات التي أدت الى شكل جديد في تنظيم المدن والتوصل الى قيم الديمقراطية الأثينية, لقد كانت الأبجدية اليونانية _ من حيث المبدأ _ وراء ظهور الكثير من الأبجديات الكبرى التي تلتها ، حتى عمت الأبجدية اللاتينية كافة الدول الغربية كما يقول سيرج بيرو وفيليب بروتون ، في كتابهم ثورة الاتصال ، ويضيف جريمال : لا يكفي أن تنبئ اللغة عن حدث ما ، وانما ينبغي أن تكشف مدى مسئولية المتحدث عما يقول ،وإذا كان يريد أن يضفي عليه موضوعية تامة وكاملة ، أو أنه على العكس ليس سوى متحدث بلسان الآخرين أو إذا كان يكتفي بالحديث عن مجرد احتمال ،ويشير جريمال أيضا الى نقطة هامة وهي أن المفاهيم الإغريقية الرئيسية، التي اتسمت بسعيها نحو عالمية مجردة تمت ترجمتها الى اللغة اللاتينية بمعنى مختلف ، أكثر مادية وأكثر توجها نحو الحياة الاجتماعية للمدن ،وقد مهدت هذه النزعة العلمية لظهور فكرة الإعلام ، أي نوع من المعرفة يمكن صياغته ،والاستدلال عليه ،وهي معرفة قابلة للتداول عن طريق التعليم بوجه خاص. كما سارت الثورة الفرنسية في نفس الاتجاه من حيث تقنيات الاتصال ،وكان التأكيد على سيادة الشعب من أبرز القيم الجديدة التي دعا لها رجال الثورة ، فقد سمحت عندما جعلت من " الأمة " ملكية مشتركة، بأن تصبح هذه الأمة موضع تقديس جديد من ناحية،وأكدت على الكيان السيادي والمسئول للإنسان من ناحية أخرى ، هذا التعريف الإقليمي الجديد للتفرقة بين النطاق الفردي والنطاق العام جعل الاتصال الاجتماعي لا غنى عنه ، باعتباره الوسيلة الوحيدة لربط النطاقات الفردية للأشخاص ، وكان لهذا الانقلاب العميق في القيم ، الذي حلت محله بعد فترة المعتقدات الليبرالية التي وصلت الى العالم الأنجلوساسكوني ، نتائج غير محسوبة على الدور الجديد للاتصال وتقنياته. وقد تأثر الاتصال بنفس معامل الحرية الذي حكم النطاق الفردي، وكان إلغاء الرقابة على الكتابة وحرية الصحافة والرأي علامة على أن ما يربط الأشخاص بعضهم بالبعض الآخر يجب أن يتحرر - مثل الناس أنفسهم _ من جميع القيود .وقد انطبقت على الاتصال الاجتماعي نفس القاعدة التي تحد النطاق الفردي والتي يلخصها الشعار الشهير لرجال الثورة _ الفرنسية _ " إن حرية الفرد تنتهي حيثما تبدأ حرية الآخرين ". فقد كانت هذه الحرية الجديدة للفرد _ المواطن تفترض الاختيار ، اختيار المعلومة . وأصبحت المشاركة في الاتصال الاجتماعي بالتالي ضرورة أساسية للديمقراطية الجديدة . لم يعد " الاستعلام " مجرد حق حاربت الشعوب من أجله،وإنما واجب ثوري لن يكون من المستحسن في بعض الفترات التقاعس عنه ،وفي عصور القمع ، حول الجهل السياسي الأفراد بسرعة الى حلفاء موضوعيين " للمعارضة الرجعية . كما يبدو قطاع وسائل الإعلام _الطباعة ، الصحافة ، الراديو والتلفزيون _ للولهة الأولى كما لو كان يملك أكثر الجذور التاريخية عمقا .فالطباعة ترجع بداياتها الى " نهضة " الغرب ، والصحافة المكتوبة عمرها الآن القرنين ن أما الإذاعة والتلفزيون فقد شهدا برغم شبابهما النسبي تطورا مذهلا . ويوجد بين وسائل الإعلام قطاع لم تتحدد ملامحه بعد ، لأنه في طور التكوين ، وإن كان ينزع سريعا الى الاستقلال : هو " إدارة الاتصال " الذي يشمل العلاقات العامة والدعاية وأجهزة الاتصال والإعلام الداخلية في المؤسسات " حيث يؤكد فيليب بروتون أنه فيما بين ثقافة الاستدلال التي تميز وسائل الإعلام وثقافة البديهيات .وفيما بين ثقافة الاستدلال التي تميز وسائل الإعلام وثقافة البديهيات المنطقية التي كانت وراء ظهور الحساب الآلي ، تبحث الاتصالات السلكية عن طريقها و العاملون في قطاع وسائل الإعلام من صحفيين ومنتجين ومبدعين يختلفون _كفئة اجتماعية _ اختلافا جذريا عن العاملين في قطاع الاتصالات اللاسلكية . حيث تتعامل الفئة الأولى مع الإنسانيات والقواعد العلمية العملية للاستدلال ويجدون في " الواقع البشري " نبعهم الذي لا ينضب . وتقترب الشخصيات الرئيسية في وسائل الإعلام _ فئة المنتجين مثلا _ من حيث قيمها وأسلوب معيشتها من عالم الفنانين والمبدعين . وينتمي الرجال والنساء العاملون في وسائل الإعلام الى تيار ذي تقليد بشرى يجعل من المعلومة شيئا في حالة تكون مستمر . والنظرة الفاحصة لبرامج التأهيل للمهن الجديدة في عالم الاتصال تكشف سيادة هذا البعد الأساسي للاستدلال. ويمكن تقدير تأثير" القيم التي ينشرها النموذج الرقمي داخل تقنيات الاتصال بطرق مختلفة.على سبيل المثال ، فإن المفهوم الاستدلالي التقليدي للمعلومة في دنيا وسائل الإعلام بدأ يتأثر تدريجيا بظهور أيديولوجية " موضوعية المعلومة " التي تستند الى الأيديولوجية العلمية ، التي تقوم على عدة أسس من بينها عدم الأهلية الكرتيزية للحوار ، و" النظام القيمي الرقمي " الذي يعد التجسيد المعاصر للأيديولوجية . ومن المؤكد أن نموذج " الموضوعية " يحتفظ بجانب كبير من أهميته حينما يكون واقيا من تحريف الوقائع أو محاولات التضليل الإعلامي . ولكنه يصبح شديد الإشكالية إذا ما اتجه لإخضاع مقولات ، نابعة من الجدلية وتعدد الرؤى أو الخيار بين قيم مختلفة ، لشروط البلاغة البديهية أو الجدلية وتعدد الرؤى أو الخيار بين قيم مختلفة ، لشروط البلاغة البديهية أو الاستدلالية . إن الحديث عن ثورة الاتصالات التي يعيشها العالم اليوم هو امتداد عن حضارة الكلمة وحضارة الصورة وهي أساليب ساهمت بشكل كبير جدا في تغيير بنية القيم الانسانية ولا تزال تؤثر فينا وتجعلنا عرضة للتأثير الخارجي خصوصا وأن مضمون وسائل الإعلام الحديثة أصبح متنوعا وكل فرد يجد نفسه فيه . فاتح لعقاب