إن الأسباب مهما بلغت مكانتها تبقى في دائرة الأسباب فلا يتعلق القلب بها، بل يتعلق بالله تعالى الذي له ملك السموات والأرض، ولقد أكد الله على هذه الحقيقة عند ذكره لإمداد المسلمين في غزوة بدر بالملائكة: (إذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [الأنفال: 9 - 10]. فالملائكة ما هم إلا سبب، ويجب ألا تتعلق القلوب بهم أيضا، بل تتعلق بالناصر الحقيقي وهو الله تعالى. ولعل هذا من حكم مشروعية ذكر الله عند ملاقاة العدو: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [الأنفال: 45]. لكن لما ركن المسلمون إلى بعض الأسباب المادية في غزوة حنين فأعجبوا بكثرتهم خذلهم الله، فلم تغن عنهم كثرتهم شيئاً، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، ثم ولوا مدبرين حتى تداركهم الله برحمة منه (ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ) [التوبة: 26] ولذلك فإن أسباب النصر كثيرة ومتنوعة نذكرها فيما يلي:أولا: العمل بالأسباب المادية: لنتأمل قول الله تعالى: (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ * وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لا تُظْلَمُونَ) [الأنفال: 59 - 60]. ففي الآية الأولى توهين بشأن المشركين مهما بلغت قوتهم وإعداداتهم وإمكانياتهم، لكن الله أعقبها بقوله: (وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ). حتى لا يظن ظان من المسلمين أن الكفار صاروا في قبضتهم من غير عمل ولا أخذ بالأسباب، بل لا بد من ذلك، ويكون هذا العمل وهذا الاحتراس هو سبب جعل الله الكافرين لا يعجزون. وجاء في لفظ الآية (ما استطعتم) ليشمل كل إعداد مقدور عليه ويلزم منه استفراغ الجهد والطاقة سواء كان جهداً بدنياً أو عقلياً أو غيره في سبيل الإعداد. كما جاء في لفظ الآية (من قوة) فهي نكرة في سياق الإثبات، فتقيد العموم لتشمل كل قوة نافعة في الجهاد في سبيل الله وإرهاب أعدائه. ومن ذلك القوة العسكرية بكل صورها المعاصرة، والقوة السياسية، وقوة الرأي، والقوة الإعلامية، والتعليمية، والاقتصادية، والتقنية، وغيرها. وفي الآية إشارة والله أعلم إلى أن المكانة بين الدول، وهيبة الجانب، واعتبار الرأي في المؤتمرات الدولية؛ لا يكون إلا إذا استندت الدولة الإسلامية إلى القوة في بنائها بكل صورها السابقة كما يفيد ترتيب الآية: (وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لا تُظْلَمُونَ) وتفسير النبي صلى الله عليه وسلم للقوة بأنها الرمي ثلاثاً كما رواه مسلم معناه: أكمل أفراد القوة آلة الرمي في ذلك العصر، وليس المراد حصر القوة في آلة الرمي. ولما كان هذا الإعداد للقوة يستلزم بذل الجهد والوقت والمال، وبذل المجهود البدنية والعقلية والنفسية وغيرها، وكانت النفوس بطبعها شحيحة مؤثرة لهواها ومصالحها الشخصية ذكّرهم الله بقوله في آخر الآية: (ومَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لا تُظْلَمُونَ) فكل شيء محفوظ وإن صغر ودق، وقوله (شيء) نكرة في سياق الإثبات فتفيد العموم لتشمل كل شيء مالاً كان أو وقتاً أو علماً.. صغيراً كان أو كبيراً. نسأل الله أن يجعلنا من أنصار دينه. ومع بذل المسلم لهذه الأسباب يجب أن يتعلق قلبه بالله تعالى؛ فالأمور بيده يصرِّفها كيف يشاء (وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [الأنفال: 10]. (إن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) [آل عمران: 160].ثانيا: الإيمان الكامل بالله تعالى: الإيمان بالله هو جماع الأسباب كلها فهو إذا تحقق فلا بد أن تأتي أسباب النصر الأخرى له تبعاً، ولذا وعد الله المؤمنين في أكثر من موضع في كتابه بالنصر والتمكين والاستخلاف (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) [الروم: 47]. (إنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ) [غافر: 51]. (وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) [الأنفال: 19] إنه الإيمان المقتضي للعبودية التامة لله تعالى والدخول في السلم كافة. إن حقيقة الإيمان التي يتحقق بها وعد الله حقيقة ضخمة تستفرق النشاط الإنساني كله، وتوجه النشاط الإنساني كله؛ فما تكاد تستقر في القلب حتى تعلن عن نفسها في صورة عمل ونشاط وبناء وإنشاء موجه كله إلى الله، لا يبغي به صاحبه إلا وجه الله تعالى، وهي طاعة الله واستسلام لأمره في الصغيرة والكبيرة، لا يبقى معها هوى في النفس ولا شهوة في القلب، ولا ميل في الفطرة ألا وهو يستغرق الإنسان كله.. وخلجات قلبه وأشواق روحه وميول فطرته وحركات جسمه ولفتات جوارحه وسلوكه مع ربه في أهله ومع الناس أجمعين.. يتوجه بهذا كله إلى الله. وحينئذ يتحقق وعد الله: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) [النور: 55].ثالثا: عدم موالاة الكفار والركون إليهم: قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إن تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ) [آل عمران: 149 - 150]. هاتان الآيتان جاءتا خلال الحديث عن غزوة أحد لتحذر المسلمين من التفكير في موالاة الكفار والركون إليهم سواء كانوا كفاراً مظهرين لكفرهم أو كانوا منافقين؛ فمهما اشتد الكرب وعظمت المصيبة فلا يجوز للمسلمين أن يمدوا أيديهم إلى الكفار راكنين إليهم؛ فإن العاقبة وخيمة: (يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ) خسارة الدنيا. وإن بعض النفوس الضعيفة عند الهزيمة قد تتطلع إلى ما عند الكفار تتلمس العزة عندهم؛ فمن كان حاله كذلك فليتذكر: (بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ)، ولعل في التاريخ خير شاهد فيما جرى لمسلمي الأندلس حين أطاعوا النصارى ووالوهم وركنوا إليهم.رابعا: اجتماع الكلمة: إن تفرق الكلمة سبب للفشل وذهاب القوة والهيبة من نفوس الأعداء (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [الأنفال: 46]. بل قد يحول النصر إلى هزيمة (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ) [آل عمران: 151]. وإننا اليوم في أشد الحاجة إلى جمع الكلمة ورص الصفوف، واستثمار كافة الطاقات، ونبذ كل فرقة بنيت على خلاف اجتهادي، أو على خلاف قطعي لا يخرج عن ملة الإسلام لدفع عدد أكبر يريد إهلاك الحرث والنسل، ما أحوجنا إلى ترك بُنيات الطريق.