كان ابن عباس رضي الله عنهما معتكفاً في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءه رجل يستعين به على حاجة له، فخرج معه، وقال: سمعتُ صاحب هذا القبر صلى الله عليه وسلم يقول: من مشى في حاجة أخيه وبلغ فيها كان خيراً من اعتكاف عشر سنين، ومن اعتكف يوماً ابتغاءَ وجه الله جعلَ الله بينه وبين النار ثلاثة خنادق، كل خندق أبعد مما بين الخافقين.وقال سفيان بن عيينة: ليس أقول لكم إلا ما سمعت: قيل لابن المنكدر: أي الأعمال أفضل؟ قال: إدخال السرور على المؤمن. وقيل: أي الدنيا أحب إليك؟ قال: الإفضال على الإخوان. وقال الحسن البصري رحمه الله: لأنْ أقضي حاجةً لأخ أحبُّ إليَّ من أن أعتكف سنة. وفي الأثر: صنائع المعروف تقي ميتة السوء. وقال جعفر بن محمد: إن الحاجة تعرض للرجل قِبَلي فأبادر بقضائها مخافةَ أن يستغني عنها، أو تأتيها وقد استبطأها، فلا يكون لها عنده موقع. قال البيجاني رحمه الله: وإذا أراد الله بعبد خيراً جعل قضاء الحوائج على يديه. وفي الناس موفّقون لا يدخلون في شيء إلا أصلحوه، وإذا تناولوه أتقنوه، وإذا شفعوا شُفِّعوا، وإذا سعوا في حاجة قضوها، أولئك هم الميسَّرون لما خُلقوا له، وبفضل مساعيهم، وحُسْن نياتهم؛ تُقضى الحوائج بلا عناء، ومن استعان بهم بعد الله تعالى وجد عندهم الفرج بعد الشدة، والمخرج الواسع بعد الضيق.ومجالات الشفاعة الحسنة واصطناع المعروف إلى الخلق كثيرة، منها رفعُ حاجة مَنْ لا يستطيع رفعها إلى الحكام والمسؤولين. فقد كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما: إنه لم يزل للناس وجوه يرفعون حوائج الناس، فأكرِم وجوه الناس، فبِحسْبِ المسلم الضعيف من العدل أن يُنصَف في العدل والقسمة. ومنها تزكية من يحتاج إلى تزكية. ومنها تعليم الجاهل وإرشاد الضال. ومنها نصح المستشارين وتوجيههم إلى ما فيه خيرهم في دينهم ودنياهم، فالمستشار مؤتمَن. ومنها الشفاعة في المرضى من الأقارب والجيران والطلاب الغرباء الوافدين من بعيد. وأيضا المرافعة عن المظلومين المعدَمين لدى المحاكم. وتفقُّد حال المحرومين الذين لا يسألون الناس إلحافاً. ومن له جاه ومنزلة لدى المسؤولين عن توزيع الزكوات، أو بعض الموسرين؛ فلْيَسعَ للحصول على قدر من ذلك لتوزيعها على المحرومين العفيفين من الفقراء، ولا سيما طلاب العلم الشرعي. والسعي بالشفاعة للإصلاح بين الأزواج من الأهل ولمن له مكانة عندهم. ومنها الشفاعة للمعسرين لدى الغرماء.والشفاعة لم يُغفلها الأخيار من مشركي العرب في جاهليتهم، فكيف بالمسلمين؟ فهم أحق بذلك وأَوْلى، ولا سيما في هذا العصر الذي فشا فيه الظلم وانحسر فيه العدل.روى الحافظ ابن كثير في السيرة النبوية عن محمد وعبد الرحمن ابني أبي بكر قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقد شهدتُ في دار عبد الله بن جُدعان حلفاً لو دعيت به في الإسلام لأجبت، تحالفوا أن يردوا الفضول على أهلها، وألا يعزّ ظالمُ مظلوماً). وقال: وكان هذا الحلف قبل المبعث بعشرين. حيث أخذ العاص بن وائل سلعة من رجل غريب عن مكة على أن يدفع له ثمنها مؤجلا؛ فلما حان الأجل وجاء الرجل لأخذ ماله جحده العاص بن وائل، بل وطرده وهدده، فصعد الرجل على مرتفع في مكة وصرخ في الناس أنه غريب مظلوم، فقام في ذلك الزبير بن عبد المطلب وقال: ما لهذا مترَك. فاجتمعت هاشم، وزهرة، وتيم بن مرة في دار عبد الله بن جُدْعان، فصنع لهم طعاماً فتحالفوا في ذي القعدة في شهرٍ حرام، فتعاقدوا وتعاهدوا بالله ليكونُنّ يداً واحدة مع المظلوم على الظالم حتى يؤدِّي إليه حقه، فسمّت قريش ذلك الحلفَ حلفَ الفضول، وقالوا: لقد دخل هؤلاء في (فضلٍ) من الأمر، ثم مشوا إلى العاص بن وائل، فانتزعوا منه سلعة الزبيدي فباعوها إليه.فالشفاعة الحسنة مشروعة في الإسلام ومحمودة ومرغوب فيها وأجرها عظيم كما ذُكر، وحكمها في الجملة الندب، وقيل: فرض كفاية، وقد تصل إلى درجة الوجوب في بعض الحالات على مَنْ تعيَّنت عليه.