تجد من الأولاد من لا يراعى حق والديه, ولا يراعى مشاعرهما؛ فتراه لا يأنف من إبكائهما, وتحزينهما, ونهرهما, والتأفّف والتضجّر من أوامرهما, والعبوس وتقطيب الجبين أمامهما؛ فمن الناس من تجده في المجالس هاشًّا باشًّا حسَن المعشر؛ فإذا دخل المنزل, وجلس إلى والديه انقلب ليثاً هصوراً لا يلوي على شيء؛ حيث تتبدّل حاله, فتذهب وداعته, وتحلّ غلظته وفظاظته. ومن الأولاد من ينظر إلى والديه شزَراً, قال معاوية بن إسحاق عن عروة بن الزبير - رحمهم الله ورضي عنهم: "ما بَرَّ والدَه مَنْ شَدَّ الطّرفَ إليه". ومن قلّة المراعاة لمشاعر الوالدين قلّة الاعتداد برأيهما, والإشاحة بالوجه عنهما إذا تحدّثا, وإثارة المشكلات أمامهما, وذمّهما عند الناس، والقدح فيهما، والتبرّؤ منهما، والحياء من الانتساب إليهما. فحرِيّ بالولد أن يسعى سعيه في برّ والديه؛ فيحسن إليهما, ويخفض الجناح لهما, ويصغي إلى حديثهما, ويتودّد لهما بكل ما يستطيع من برّ وصلة, ويتجنّب كل ما يفضي إلى العقوق والتكدير. وليكن له في سلفنا الصالح قدوةٌ؛ فلقد ضربوا أروع الأمثلة في البر، ومراعاة مشاعر الوالدين، وإليك طرفاً من ذلك: عن أبي مُرَّة مولى أم هانئ بنت أبي طالب: "أنه ركب مع أبي هريرة إلى أرضه بالعقيق، فإذا دخل أرضه صاح بأعلى صوته: عليك السلام ورحمة الله وبركاته يا أماه! تقول: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته. يقول: رحمك الله كما ربيتني صغيرًا. فتقول: "يا بني! وأنت فجزاك الله خيرًا ورضي عنك، كما بررتني كبيرًا". وهذا ابن عمر -رضي الله عنهما- لقيه رجل من الأعراب بطريق مكة، فسلم عليه عبد الله بن عمر، وحمله على حمار كان يركبه، وأعطاه عمامة كانت على رأسه. قال ابن دينار: فقلنا له: أصلحك الله إنهم الأعراب، وهم يرضون باليسير. فقال عبد الله بن عمر: إن أبا هذا كان وُدًّا لعمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وإني سمعت رسول الله -رحمه الله- يقول: "إن أبرَّ البر صلةُ الولدِ أهلَ ودِّ أبيه". وعن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "دخلت الجنة فسمعت فيها قراءة، فقلت: من هذا؟ قالوا:حارثة بن النعمان، كذلكم البرّ، كذلكم البرّ، وكان أبرّ الناس بأمه". وقال هشام بن حسان: "حدثتني حفصة بنت سيرين، قالت: كانت والدة محمد بن سيرين حجازية، وكان يعجبها الصِّبغ، وكان محمد إذا اشترى لها ثوباً اشترى ألين ما يجد، فإذا كان عيد صبغ لها ثياباً، وما رأيته رافعاً صوته عليها، كان إذا كلمها كالمصغي".