بعد وفاتها أراد زوجها أن يحملها إلى المدينةالمنورة لكي يدفنها بالبقيع، فعرف المصريون بذلك فهرعوا إلى الوالي عبد الله بن السري بن الحكم واستجاروا به عند زوجها ليرده عما أراد فأبى، فجمعوا له مالا وفيرا وسألوه أن يدفنها عندهم فأبى أيضا، فباتوا منه في ألم عظيم، لكنهم عند الصباح في اليوم التالي وجدوه مستجيبا لرغبتهم، فلما سألوه عن السبب قال: رأيت الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يقول لي رد عليهم أموالهم وادفنها عندهم، انها السيدة "سكينة بنت الحسين" التي وصلنا لضريحها في القاهرة، ومن هناك نستعيد ذكراها العطرة ويقع مشهد السيدة نفيسة في منطقة السيدة نفيسة المسماة قديما بدرب السباع، ويقع هذا الضريح في بداية الطريق المسمى (طريق أهل البيت) حيث يصبح المشهد النفيسى هو المحطة الثانية في هذا الطريق بعد مشهد الامام علي زين العابدين (مقام راس زيد بن علي)، وطريق أهل البيت طريق شهير يبدأ بمقام زين العابدين وينتهي بمشهد السيدة زينب بنت علي مرورا بالسيدة نفيسة والسيدة سكينة بنت الحسين والسيدة رقية بنت علي بن أبي طالب والسيد محمد بن جعفر الصادق والسيدة عاتكة عمة الرسول صلى الله عليه وسلم . أول ما يلفت الانتباه في ضريح السيدة نفيسة هو كمية الذهب والفضة التي استخدمت في عمارته، بشكل لم تراه العين من قبل، فقد جاء في خطط المقريزي أن أول من بنى قبر السيدة نفيسة هو عبيد الله بن السري والي مصر من قبل الدولة العباسية، ثم أعيد بناء الضريح في عهد الدولة الفاطمية حيث أضيفت له قبة، ودون تاريخ العمارة علي لوح من الرخام وضعت علي باب الضريح وتبين اسم الخليفه الفاطمي المستنصر بالله وألقابه. وأعيد تجديد هذه القبة في عهد الخليفه الفاطمي الحافظ لدين الله بعد أن حدثت فيها بعض التصدعات والشروخ، كما كسي المحراب بالرخام سنة 532ه (1138م)، إلى أن أمر السلطان الناصر محمد ابن قلاوون أن يتولى نظارة المشهد النفيسي الخلفاء العباسيون. وكان أول من تولى النظر عليه هو الخليفة العباسي المعتضد بالله أبو الفتح أبو بكر ابن المستكفي، وهو من بقايا العباسيون الذين هاجروا إلى مصر بعد أن قضي عليهم المغول سنة 656ه (1258م). وجدد المشهد النفيسي في عصر العثمانيين في عهد الأمير عبد الرحمن كتخدا وبني الضريح علي هذه الهيئة الموجودة عليه الآن. والمسجد له مدخل للرجال ومدخل للنساء، وحديثا تم تجديد المدخل وفرشه بالرخام الفاخر وفي داخل المسجد ممر طويل يصل بك إلى المقام الشريف، وفي هذا الممر يوجد لوحات مرسومة رائعة حب أهل البيت، وبعض الاشعار الرائعة في مدح أهل البيت. وفي كل أحد من كل أسبوع يستقبل مسجد السيدة نفيسة، زواره من مختلف الفئات الذين يحرصون على أداء صلاة المغرب، والبقاء بالمسجد يرتلون ما تيسر من آيات الذكر الحكيم حتى صلاة العشاء، فيما يعرف حسبما يقول الشيخ "حسن الجمل" إمام وخطيب المسجد ب"يوم الحضرة"، يوم تذوب فيه الفروق الاجتماعية وتتلاشى فيه المناصب، سياسيون وبسطاء من عامة الشعب، وزراء سابقون وحاليون وعلماء ورجال فكر وسياسة، هم الزوار الدائمون لمقام السيدة نفيسة رضي الله عنها، في تظاهرة أسبوعية قلما تجد لها مثيلا، ما يجعل من صاحبة المسجد والضريح حالة شديدة الخصوصية بين نظرائها من مساجد وأضرحة آل البيت في مصر، ففي ضريحها بكي وزراء، وطلب سياسيون بارزون العون من الله في الشدائد، واستلهمت السيدة تحية كاظم زوجة الزعيم الراحل جمال عبد الناصر الصبر بعد رحيل الزوج والسند، فقد كانت رضي الله عنها تتعلق بأستار الكعبة وتقول: "إلهي وسيدي ومولاي متعتي وفرحتي برضاك عني.. فلا تسبب لي سببا به عنك يحجبني"، وتروي زينب ابنة أخيها يحيي المتوج، طرفا من حياتها في كتب الأثر: "خدمت عمتي نفيسة أربعين سنة فما رأيتها نامت الليل ولا أفطرت بنهار، فقلت لها: أما ترفقين بنفسك، فقالت "كيف أرفق بنفسي وقدامي عقبات لا يقطعها إلا الفائزون" . وتروي أيضا أن زوجها رضي الله عنها طلب منها ذات يوم أن ترفق بنفسها، فقالت: "من استقام مع الله، كان الكون بيده وفى طاعته". وكانت تعرف أنها لكى تفوز بجنة الخلد، فلابد لها أن تجتهد فى العبادة، وأن تبتعد عن ملذات الدنيا، فتقول: "لا مناص من الشوك فى طريق السعادة، فمن تخطاه وصل". والسيدة نفيسة هي ابنة الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم . وقد ولدت رضى الله عنها بمكة سنة 145ه وتوفيت سنة 208ه، أى عاشت 63عاما، وتزوجت من إسحاق بن الإمام جعفر الصادق بن الإمام محمد الباقر بن الإمام على زين العابدين بن الإمام الحسين بن الإمام على، وكان يدعى (إسحاق المؤتمن)، وولدت له القاسم وأم كلثوم رضى الله عنهما. ومعروف عن السيدة نفيسة أنها حجت أكثر من ثلاثين حجة أكثرها ماشية على الأقدام، ولم تفارق حرم النبى (ص)، ثم هبطت إلى مصر سنة 193ه ومكثت بها حتى وافتها المنية فدفنت في القاهرة، وقد بلغت رضي الله عنها أقصى درجات الصلاح والزهد، وكانت كثيرة البكاء .. تديم قيام الليل وصيام النهار .. وكانت نفيسة من النساء الصالحات التقيات، ويروي أن الشافعي لما دخل مصر سمع عليها الحديث، وكان المصريين يقدسونها بشكل كبير لا يزال باق حتى اليوم . ويروى أن السيدة نفسية هي التي كانت تحفر قبرها بنفسها، وقد توفيت في اليوم الذي أتمت فيه حفر هذا القبر، كما يروي وقوع كثير من الكرامات على يديها، وكان الإمام الشافعى فى زمانها إذا مرض يرسل لها ليسألها الدعاء فلا يرجع الرسول إلا وقد شفى الشافعى من مرضه، فلما مرض مرضه الذى مات فيه أرسل للسيدة نفيسة يسألها الدعاء كعادته فقالت: متعه الله بالنظر إلى وجهه الكريم، فعلم الشافعى بدنو أجله، وحين توفي الشافعي أحضر جثمانه أمامها لتصلي عليه، فصلت عليه من وراء حجاب في موضع مشهدها اليوم الذي كان منزلها أثناء حياتها. عديدة هي الكرامات التي وقعت على يد السيدة نفيسة رضي الله عنها، ففي حياتها جف ماء النيل، فجاء الناس إليها وسألوها الدعاء، فأعطتهم قناعها فذهبوا به إلى النهر وطرحوه فيه فما رجعوا حتى زخر النيل بمائه وزاد زيادة كبيرة، وفي حياتها أسلم سبعون يهوديا، وتعلم أئمة الفقه على يديها، وتزوج رجل مسلم من امرأة من الأقباط فجاء منها بولد، وعندما شب أسر في بلاد الغزو، فسألت والدته عنه من رجع من المعركة فلم تجده، فقالت لزوجها : "بلغني أن من بين أظهرنا سيدة شريفة من أسرة نبيكم يقال لها السيدة نفيسة، وان لها كرامات فاذهب إليها علها تدعو لولدي، فإن جاء آمنت بدينها، فجاء الرجل إلى السيدة نفيسة وقص عليها القصة، فضرعت إلى ربها أن يرد عليها ولدها ويخلصه من أسره، فلما كان الليل إذا بالباب يطرق، فخرجت المرأة فإذا بها تجد الطارق ولدها وهو يقف بالباب، فصاحت من فرحتها وفرحت به وأسلمت ووهبت نفسها لخدمة السيدة نفيسة. ويقول المصريون السيدة نفيسة إنه ما من زائر لقبرها إلا حفت به كراماتها وشملته نفحاتها، فكم من مهموم زارها وضرع إلى الله تعالى فانحسرت غمومه وانقشعت همومه، وكم من خائف أو مظلوم إلا وقد لقي الإنصاف وباعد الله عنه الظلم، وما من مفزوع أو مكلوم إلا وسكن قلبه وعاد بعد زيارتها وهو ساكن البال مطمئن الفؤاد. ومن الثابت تاريخيا أن السيدة نفيسة حينما وصلت إلى مصر هي وزوجها وأبيها، كان قدومها أمرا عظيما، إذ استقبلها المصريون رجالا ونساء عند الحدود الشماليةالشرقية للبلاد في مدينة العريش بالهوادج، حتى إذا استقر بها المقام في القاهرة شهد بيتها الكائن في درب السباع آلاف الزوار وبخاصة من هؤلاء الذين يعتقدون في كراماتها، فكان إذا نزل بهم أمر جاءوا إليها يسألونها الدعاء فتدعو لهم، فنزلت أول ما نزلت بدار كبير تجار مصر حينذاك جمال الدين عبدالله بن الحصاص ومكثت به أشهرا والناس يأتون إليها للتبرك بها والاستفادة من علمها، ثم انتقلت إلى دار أم هاني بمنطقة المصاحبة (حي الحسين الآن)، وكان بهذه الجهة رجل يهودي يدعى "أبو السرايا" أيوب بن صابر، وكانت له ابنة مقعدة فتوجه بها إلى السيدة نفيسة واستأذنها في البقاء عندها حتى يعود من الحمام، فأذنت لها ولما جاء وقت صلاة الظهر توضأت السيدة نفيسة بجانب الفتاة المقعدة فجرى ماء الوضوء إليها، وألهمها الله أن تمسح بذلك الماء أعضاءها فتحركت وشفيت من مرضها، وعندما شاهدتها أمها بكت بكاء شديدا، فلما حضر والد البنت وعلم ما حدث أسلم وأسلمت معه زوجته وابنته، فشاع خبر إسلام اليهودي في العائلة فأسلمت عن بكرة أبيها، وكان عدد أفرادها سبعين يهوديا، وأصر والد الفتاة على انتقال السيدة نفيسة إلى بيته بدرب الكروبيين بجوار مسجد المعرف بشارع القبر الطويل بالحسينية فوافقت، وما زالت هذه الدار موجودة حتى الآن وكذلك الحجرة التي كانت السيدة نفيسة رضي الله عنها تتعبد فيها. وقد كان الزحام الشديد عند باب السيدة نفيسة وتهافت المصريين على رؤيتها والاستماع إليها دافعا لزوجها بعد شهور من قدومها إلى مصر إلى التفكير جديا في الارتحال إلى الحجاز، بل إنه عرض عليها الأمر فما كان منها إلا أن قالت: "لا أستطيع ذلك فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام، وقال لي لا ترحلي من مصر فإن الله تبارك وتعالى متوفيك بها"، وكان يوم دفنها يوما مشهودا، فقد هرع المصريون من أقصى البلاد وأدناها، ليصلوا عليها، إكراما لنسبها للبيت النبوي الشريف، ولعلمها الغزير الذي كان سببا في أن يفد عليها في حياتها أئمة الفقه الإسلامي وكبار العلماء، ويروى أن الإمام الشافعي زارها في بيتها وأنه قال لها من وراء حجاب: ادعي لي، فلما توفي في العام 204 هجرية أدخلت جنازته إليها، فصلت عليه وقالت: "رحم الله الشافعي، فقد كان يحسن الوضوء". وكانت رضى الله عنها المنهل الرئيسي للامام الشافعي الذي تلقن على يديها الحديث والعلم، كما كانت تجير المظلوم، ولا تستريح حتى ترفع الظلم عنه، حتى اعتبرها المصريون أمهم الحنون، فقد استجار بها رجل ثرى من ظلم بعض أولى الأمر، فساعدته فى رفع الظلم عنه، ودعت له، فعاد مكرما معززا، فأهداها مائة ألف درهم شكرا لها واعترافًا بفضلها، فوزعتها على الفقراء والمساكين، وهى لا تملك ما يكفيها من طعام يومها، وبعد سبع سنوات من الإقامة فى مصر، مرضت السيدة نفيسة، فصبرت ورضيت، وكانت تقول: "الصبر يلازم المؤمن بقدر ما فى قلبه من إيمان، وحسب الصابر أن الله معه، وعلى المؤمن أن يستبشر بالمشاق التي تعترضه، فإنها سبيل لرفع درجته عند الله، وقد جعل الأجر على قدر المشقة، والله يضاعف لمن يشاء، والله واسع عليم"، وتقول أيضا: "لقد ذكر الصبر فى القرآن الكريم مائة وثلاث مرات، وذلك دليل على قيمة الصبر وعلو شأنه وحسن عاقبته"، ولما أحست السيدة نفيسة أن النهاية قد اقتربت، أرسلت إلى زوجها إسحاق المؤتمن، تطلب منه الحضور وكان بعيدا عنها، وفى صحن دارها حفرت قبرها بيدها، وكانت تنزل فيه وتصلى كثيرا، حتى إنها قرأت فيه المصحف مائة وتسعين مرة وهى تبكى بكاء شديدا، وكانت السيدة نفيسة صائمة كعادتها، فألحوا عليها أن تفطر رفقًا بها، وهى فى لحظاتها الأخيرة، لكنها صممت على الصوم برغم أنها كانت على وشك لقاء الله، وقالت: "وا عجبا، منذ ثلاثين سنة أسأل الله تعالى أن ألقاه وأنا صائمة، أأفطر الآن؟! هذا لا يكون"، ثم راحت تقرأ بخشوع من سورة الأنعام، حتى وصلت إلى قوله تعالى:"لهم دار السلام عند ربهم وهو وليهم بما كانوا يعملون"، ففارقت الحياة، وفاضت روحها إلى الله، فبكاها أهل مصر، وحزنوا لموتها حزنا شديدا، وحينما حضر زوجها أراد أن ينقل جثمانها إلى المدينة، لكن الناس منعوه، ودفنت فى مصر .