يُعدُّ "منهج الاجتهاد" من أبرز ميزات التفكير الإنساني العِلمي، وعندما يكون التفكير بلا منهج أو منطق معقول، يُصبِح تعبيرًا شعريًّا ذاتيًّا غير صالح للتعميم والتقعيد وتحقيق الفائدة العامة، ومِن هنا فلا بدَّ - إسلاميًّا - مِن أن يكون التفكير مُرتبطًا بالمَنطِق والعقل، العقل المُحايد المُنصِف الجماعي المُنضبِط. والاجتهاد في أمور الحياة العامة مَفتوح بلا ضوابطَ إلا ضوابط المصلحة والمنفعَة والأخلاق الإنسانية، أما الاجتهاد الاصطِلاحي المرتبط بدين - هو الإسلام - فلا بدَّ مِن أن يكون مُقيَّدًا بالنصوص الإسلامية القطعية الثبوت والدَّلالة، وأن يكون مُقيَّدًا باللغة المنضبطة بالضوابط المُعجميَّة والمَجمعية - أي: "القاموسية" المعتمدة، والمقدرة أيضًا من علماء المجامع أو اللغة - وإلا أصبحت لغة خاصة صوفية غير قابلة للتعميم والاستعمال الاجتماعي، فلا اجتهاد مع النص، وإلا أصبح اجتهادًا غير إسلاميٍّ، ولا اجتهاد بدون لغة مُشتركة يَفهمها الجميع فهمًا واضحًا وفهمًا واحدًا يَحتكِمون إليه ويَتعاملون به، ومِن البديهيات التي يؤمن بها كلُّ مسلم أن الكتاب الذي أنزله الله على نبيِّه محمد - عليه السلام - وهو القرآن الكريم، والسنة النبوية الصحيحة - هما المَصدران لكلِّ جانب عقَدي أو تشريعي في الإسلام، والفرق بين التصوُّرات الإسلامية وغير الإسلامية تُوزَن بحسب انطلاقها مِن هذَين المصدرَين أو ابتعادها عنهما، فضلاً عن تلك الاجتهادات التي لا تَنطلِق منهما، حتى وإن زعم أصحابها أنهم مجتهدون مسلمون. وليس مِن صلاحيات أي مُسلم - كائنًا ما كان - أن يَتعدى على أصول الإسلام الثابتة، وهي القرآن وسنة الرسول -صلى الله عليه وسلم- القَوليَّة والفِعليَّة والتقريرية، وسواء أُطلِق على هذا الاعتداء اسم التطوير، أم المعاصرة، أم التحديث، أم غير ذلك مِن المصطلحات، فإن هذا الاعتداء أمر منكور لا يَقبله الإسلام. وليس في الإسلام حق مُقدَّس لفرد ما، كما لا توجد "مجامع مقدَّسة" تملك حقَّ حذْف النصوص أو الاعتداء على دلالاتها الظاهرة الواضحة، وكل ما عرفه المسلمون مِن صور الاجتهاد فإنما كان اجتهادًا قائمًا على أساس أصلَيِ الإسلام الثابتَين وفي ضوئهما، ولم يكن شيئًا إضافيًّا لهما، أو خروجًا عن ظلالهما وإشعاعاتهما. وفي تقديرنا أن هذا الفهم الواضح لطبيعة النظام الإسلامي وأصوله - قضيةٌ لا يُماري فيها عقل مسلم، فضلاً عن فقهاء الأمة المُجتهدين وإنما مناط الخلاف هو ما سِوى القرآن والسنَّة مما اصطُلح على تسميته "بالأصول الفقهيَّة الاجتهادية" أو "الأصول التبعيَّة"، وهذه الأصول تطوَّرت وتراكمت حتى أصبحت عِلمًا قائمًا بذاته تدور حوله مجموعة من العلوم الفرعية، فاعتمادًا على القرآن والسنَّة وانطلاقًا منهما، أبرز العقل الإسلامي أدوات أو أصولاً فقهية مؤصِّلة للاجتهاد، ومُعِينة على الاستنباط الصحيح، وهذه الأصول هي: الإجماع: "وهو اتِّفاق أهل الحل والعقد مِن أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- في عصر مِن العصور على أمر مِن أمور الدِّين أو الدنيا. القياس: "وهو مساواة أمر لآخَر في عِلَّة حكم شرعيٍّ، لا تُدرَك مِن نصِّه بمجرَّد فهم اللغة". الاستصحاب: "وهو الحكم على الشيء في زمن متأخِّر بما كان قد حكم به في زمن مُتقدِّم، حتى يَثبت دليل على تغيير الحكْم لعِلة طارئة. المصلحة المرسلة: "وهي الوصف الذي يكون في ترتيب الحكم عليه جلبُ منفعة للناس، أو درء مفسدة ظاهرة أو خفيَّة عنهم". سدُّ الذرائع والحيَل: "وهي إغلاق المنافذ التي تكون في ذاتها جائزة، لكنها تؤدي إلى ممنوع شرعًا". الاستحسان: "وهو العمل بأقوى الدليلَين في ضوء الترجيح بين الأدلة والأقيسة، واستثناء مسألة مِن أصل عام لاعتبارات خاصة، وما إلى ذلك مما يتَّصل بحسِّ المسلم وفقهه. العرف: "وهو ما تلقَّته طباع الناس بالقَبول، واستقرَّت عليه نفوسهم، وصار عند جميعهم شائعًا، قولاً كان أو فعلاً، بحيث لا يُعارض أمرًا مِن أوامر القرآن أو السنَّة الشريفة، ومثل العرف العادة، فهما شبه مُترادفَين" شرع مَن قبلَنا، وهل يَصلُح شرعًا لنا؟ فتوى الصَّحابي، وهل هي ملزمة أم يُستأنس بها فقط؟ فهذه الأصول الفقهية - وغيرها مما يَلحق بها - هي مناط الخلاف بين الفقهاء والمُجتهدين، وهي ما يُحاول بعضهم - في أيامنا تلك - تطويرها وتجديدها، بحيث تستوعب مُستحدَثات عصرِنا الكثيرة، لكن بعضهم يرى أن "التجديد أو التطوير" في هذه الأصول لن يَعدو أن يكون عملية "شكليَّة"، لأن هذه الأصول يُمكنها أن تستوعب أية وقائع مُستحدَثة، وهم - مِن خلال هذا البحث - يسألون دعاة التطوير أو التجديد: هاتوا لنا وقائع لا تَنتظِمها هذه الأصول؟ وثمَّة فريق ثالث يرفض "التجديد" بالجملة، ويرى أن هذا المصطلح سُلَّم للاعتداء على حقائق الإسلام الثابتة، وأن الأمر سيتدرَّج مِن الفقه إلى الشريعة، ومِن الشريعة إلى العقيدة، وبما أن هذا البحث محايد - في حدود الاجتهاد المقبول - فنحن نحترم كل الآراء ما دامت كلها في إطار الأصلَين الثابتَين، وهما القرآن الكريم كتاب الله الذي ﴿ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ﴾ [فصلت: 42].]. وسنَّة الرسول، "وهي ما صدر عنه -صلى الله عليه وسلم- قولاً كان أو فعلاً أو تقريرًا"، فالكتاب والسنَّة أصل الأصول، أما ما هو خارج عن كتاب الله وسنَّة رسوله، فنحن لا نسميه اجتهادًا، بل هو انحراف عن الإسلام، وعند هذا الحدِّ، فنحن لسنا بمُحايدين، بل نحن ندور مع كتاب الله وسنَّة رسوله - إن شاء الله - ولا نحيد عنهما، ولا نُقدِّم عليهما سواهما، فلا حياد ولا حيدة لمسلم عن كتاب الله وسنَّة رسوله.