مع حلول شهر رمضان المبارك يتزايد الإقبال على المساجد لأداء الصلوات وخاصة صلاة التراويح، في أجواء روحانية مفعمة بنفحات الإيمان التي تتزايد في هذا الشهر الفضيل الذي أنزل فيه القرآن الكريم هدى للناس، وهو ما يعظم من شأنه ويجعله ينفرد عن باقي الشهور الأخرى. وما أن يقترب آذان صلاة العشاء حتى يهرع المصلون إلى المساجد التي سرعان ما تمتلئ عن آخرها لتتم الاستعانة بالساحات والفضاءات المخصصة للصلاة، لاستيعاب الأعداد الكبيرة التي تتوافد على المساجد، خاصة، تلك التي يتواجد بها عدد من المقرئين المتميزين، لتعرف صلاتي العشاء والفجر ذروة الإقبال على أداء الركن الثاني من أركان الإسلام. جرت العادة عند بعض المسلمين أن يكرسوا جل وقتهم للعبادة في رمضان، إلا أنه ما أن ينقضي الشهر المبارك حتى يقل الاجتهاد في العبادة تدريجياً، وكأن تقوى الله محصورة في رمضان، هل نسي هؤلاء أن الله فرض عليهم طاعته وألزمهم عبادته في كل وقت وأن من علامات قبول العمل في رمضان المواظبة على الأعمال الصالحة بعده؟ لا شك أن التهاون في الطاعة بعد رمضان دليل على ضعف الإيمان وربما يكون دليلا على أنه لم يكن لهؤلاء المتهاونين حظ من صيامهم سوى الجوع والعطش والعياذ بالله. إن الله عز وجل قد جعل لبعض الأزمان والأماكن فضلاً تتضاعف فيها الطاعة، وحث سبحانه على التعرض بالطاعة لتلك النفحات الفاضلة وهيأ عز وجل لها أسبابها، ومن ذلك شهر رمضان المبارك، وعرفات، ويوم الجمعة، وليلة القدر وعشر ذي الحجة وغيرها. والعباد أمام هذه الأزمنة الفاضلة والأماكن أصناف، صنف لا يراعي لها حرمة، فهو ساهٍ لاهٍ قد ران على قلبه حب الدنيا وزخرفها، فهو أسود مرباد لا يعرف معروفاً، منكب على منكره نعوذ بالله من الخذلان، وصنف عبد المواسم، فتجده يصلي الجمعة ويحرص على الواجب والمفروضات في رمضان وفي الحرم المكي أو المدني فهو قد عبد رمضان وعبد مكة وعبد يوم الجمعة، أما إن فارقهم أو فارقوه فيكون كالتي نقضت غزلها، تجده مضيعاً للفروض والواجبات، ونسي أنه يعبد الله كأنه يراه فإن لم يكن يراه فهو يراه لا يفارقه مطلع عليه، وصنف جعل هذه المواسم التعبدية كما أراد الله عز وجل لها أن تكون مواسم تعبدية لزيادة عمر الأمة المحمدية، وجعلها جبراً للتقصير الذي حصل في غيرها أو فيها، كما جعلها تكفيراً للذنوب التي لا ينفك عنها ولا يسلم منها مسلم، فهو يتعبد الله عز وجل ويحرص على طاعته في هذه المواسم وغيرها في حياته كلها. المسلم يحرص على ما يحبه الله ويرضاه والعمل الصالح الذي يداوم عليه صاحبه أحب إلى الله من العمل المنقطع وإن كثر، فعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ قَالَ: أَدْوَمُهُ وَإِنْ قَلَّ "وما زال المسلم يتقرب إلى الله سبحانه ويعلى الله قدره ومنزلته، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ اللَهُ تَعَالَى أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلأٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً. علامة قبول الطاعة أن توصل بطاعة بعدها، وعلامة ردها أن توصل بمعصية، ما أحسن الحسنة بعد الحسنة، وما أقبح السيئة بعد الحسنة!! ذنب بعد التوبة أقبح من سبعين قبلها. النكسة أصعب من المرض الأول، ما أوحش ذل المعصية بعد عز الطاعة، ارحموا عزيز قوم بالمعاصي ذل، وغني قوم بالذنوب افتقر، سلوا الله الثبات إلى الممات، وتعوذوا من الحور بعد الكور، كان الإمام أحمد يدعو ويقول: اللّهم أعزني بطاعتك ولا تذلني بمعصيتك. وفي حديث عائشة رضي الله عنها المتفق عليه: "وكان أحب الدين إليه ما داوم صاحبه عليه"، وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عبد الله لا تكن مثل فلان، كان يقوم الليل فترك قيام الليل»، وفي الحديث: «إن أحب الأعمال إلى الله أدومه وإن قل»، وكان عمل النّبي صلى الله عليه وسلم ديمة كما في البخاري، فهل نعي الدرس الحقيقي من شهر الصيام، وأنه مثال مصغر لتحقيق العبودية لله سبحانه وتعالى، فليكن منطلقاً لتحقيقها في جميع الأزمان والأحوال. الطاعة ليس لها زمن محدود، ولا للعبادة أجل معدود، بل يجب أن تسير النفوس على نهج الهدى والرشاد بعد رمضان، فعبادة رب العالمين ليست مقصورة على رمضان، وليس للعبد منتهى من العبادة دون الموت، وبئس القوم لا يعرفون الله إلا في رمضان، وأكد فضيلته قائلاً: إن للقبول والربح علامات، وللخسارة والرد أمارات، وإن من علامة قبول الحسنة فعل الحسنة بعدها، ومن علامة السيئة السيئة بعدها، فأتبعوا الحسنات بالحسنات تكن علامة على قبولها، وأتبعوا السيئات بالحسنات تكن كفارة لها ووقاية من خطرها، قال جل وعلا: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ج ذَٰلِكَ ذِكْرَىٰ لِلذَّاكِرِينَ} [هود: 114]، ويقول النّبي صلى الله عليه وسلم: «اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن» (رواه الترمذي)، ومن عزم على العود أي التفريط والتقصير بعد رمضان فالله يرضى عمن أطاعه في أي شهر كان، ويغضب على من عصاه في كل وقت وآن، ومدار السعادة في طول العمر وحسن العمل، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: «خير الناس من طال عمره وصلح عمله» (صحيح الجامع)، ومداومة المسلم على الطاعة من غير قصر على زمن معين أو شهر مخصوص أو مكان فاضل من أعظم البراهين على القبول وحسن الاستقامة. وأحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل، والمغبون من انصرف عن طاعة الله، والمحروم من حرم رحمة الله، والخطايا مطوقة في أعناق الرجال، والهلاك في الإصرار عليها، وما أعرض معرض عن طاعته إلا عثر في ثوب غفلته، ومن أصلح ما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين الخلق، فإياك والمعاصي بعد شهر الغفران، فالعاصي في شقاء، والخطيئة تذل الإنسان وتخرس اللسان، يقول أبو سليمان التيمي: "إن الرجل يصيب الذنب في السر فيصبح وعليه مذلته"، وأقبح بالذنب بعد الطاعة والبعد عن المولى بعد القرب منه {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97]. وماذا بعد شهر رمضان؟! ماذا عن آثار الصيام التي عملها في نفوس الصائمين؟! لننظر في حالنا، ولنتأمل في واقع أنفسنا ومجتمعاتنا وأمتنا، ولنقارن بين حالنا قبل حلول شهر رمضان وحالتنا بعده، هل ملأت التقوى قلوبنا؟ هل صلحت أعمالنا؟ هل تحسنت أخلاقنا؟ هل استقام سلوكنا؟ وزالت الضغائن والأحقاد من نفوسنا؟ هل تلاشت المنكرات والمحرمات من أسرنا ومجتمعاتنا؟ يا من استجبتم لربكم في رمضان، استجيبوا له في سائر الأيام، {اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَهِ} [الشورى: 47]، أما آن أن تخشع لذكر الله قلوبنا، وتتوحد على الصراط المستقيم دروبنا؟! لقد جاءت النصوص الشرعية بالأمر بعبادة الله والاستقامة على شرعه عامة في كل زمان ومكان، ومطلقة في كل وقت وآن، وليست مخصصة بمرحلة من العمر، أو مقيدة بفترة من الدهر، بل ليس لها غاية إلا الموت {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99]، ولما سئل بشر الحافي رحمه الله عن أناس يتعبدون في رمضان ويجتهدون، فإذا انسلخ رمضان تركوا قال: "بئس القوم لا يعرفون الله إلا في رمضان". أما آن لنا أمة الإسلام أن ندرك أن ما أصابنا من ضعف وهوان إنما هو من عند أنفسنا ونتيجة لعدم استفادتنا من مواسم البر والإحسان، إذ لم تعمل هذه المواسم عملها في القلوب فتحييها بعد موات، وعملها في الأمة فتجمعها بعد فرقة وشتات، ولم تجد في حل ما استعصى من مشكلات، وعلاج ما استفحل من معضلات، فإن ذلك دليل على عدم الوعي وقصور الفهم للإسلام، أما إذا استقامت الأمة على العبادة، ولم تهدم ما بنته في مواسم الخير، ولم يستسلم أفرادها وأبناؤها لنزغات الشيطان وأعوانه ولم يبطلوا ما عملوا في رمضان فإن الأمة بإذن الله تمسك بصمام الأمان وحبل النجاة، لتصل إلى شاطئ الأمان وبر السلام بإذن الله