آه يا فجر، نشرت زفرات الأسى والحسرة في فيافي الحياة، فأظلمت أرجاء الأفق واسودت ممرات الدروب، وأرسل الصبح حَنَقًا من مرارة الوقع الأليم، إثر هبوب رياح المنون بيت أهلي، فأذيق أبي من كأس الردى، هكذا ذابت أكباد الرحمة والمحبة تحت الثرى، فعبست الأزهار في منبتها وذبلت، وصمتت الطيور في وكناتها وناحت الأوراق في أغصانها. لقد رحل الحبيب الغالي فجأة وإلى الأبد، من يطفئ لوعة المجروح؟، من يواسي القلب المفجوع؟، حزن قاتم شلّ أوصالي والآلام كبّلت جسمي، والدمع أحرق الأجفان فانطفأت مصابيح العمر. يا أبي يا خير جليس ومؤنس في الدنيا، يا ناصحي إن أخطأت، وإن احتجت أنت معيني وطبيبي إن تألمت، يا أبي، كنت راحة للذهن ومتعة للنفس، يا ملهم شعري ومعلّمي في سرد الخواطر، زرعت في ذاتي عشق الكلمات، يا منقذي من مغبات الزمن، كنت بجنبي طيلة مراحل عذابي وسنواتي العجاف، يا أبي يا محب وحاضن أولادي منذ الصغر، يا حاميهم بدعواتك السرمدية التي ستبقى مغردة في أفق حياتهم ومؤنسة في ساحة عمرهم. يا أبي وأب المساكين والضعفاء، كنت موسوعة المعارف ورمز العلم الوفير، وفكرك حافل بالحكايات والحكم والأمثال، وأحاديثك شفاء للأسقام والروح ،ودائما تختم أقوالك بهذا القول: «الدنيا حكايات»، «هذا هو البشر» و«أنا أعمل لغد»، فكنت من روّاد المسجد من دون انقطاع، باسط اليد، ليّن الجانب وكريم المعشر، حتى نلت أرفع منزلة وأرقى مرتبة، فقد توفيت وأنت رافعا سبابتك مع نطق الشهادتين. يا أبي.. لو كان القدر يرضى برحيلي أنا بدلا عنك، لافتديتك أنا بعمري، لكن هذا هو القدر. يا أبي.. نحن بناتك وابنك الوحيد نشعر بعسر الحال وضعف الكيان، فغصّنا في يمّ الدموع، التي جرحت الخدود وأحرقت الأجفان. يا أبي.. بعد وفاة أمي زرعت النور في نواظرنا وأمطرت علينا بوابل عطفك وحنانك، وملأت حياتنا حدائق أمل وسعادة، فاليوم اكتوينا بإعصار الفراق ولوعة البعاد ونار النوى جلجلت جوارحنا فأحرقت ضلوعنا، فالوداع يا خير الورى يا أحن الآباء، فابنتك التي منحتها ظلال حبك ودلالك، لم ولن تنساك حتى تلحق بك وهي تكتب هذه الكلمات بعبرات منهمرة كالجداول وبألم كبير يغمر حشرجات الهيكل، فالوداع الوداع يا أبي.