لأن أكبر خطر تهددت به الأمة الإسلامية على مر العصور هو النفاق ولهذا كان مصيرهم يوم القيامة أسوأ مصير في الدرك الأسفل من النار، لأنهم شر من الكفار الصُّرَح، فبلية المؤمنين بهم أعظم من بليتهم بالكفار المجاهرين، لأنهم لا يظهرون ما يعتقدون، يعملون في الخفاء ويظهرون لباس الإخوان والأصدقاء، فهم مستأمنون لا يحسب لهم حساب ولا يراقبون ولا يحترز منهم إلا القليل من المؤمنين، والعدو المخالط المداخل المساكن أخطر وأشد كيدًا من العدو الظاهر البعيد، فهم أخطر من الجيوش العسكرية، والانحرافات الفكرية لأن أصحابها أعداء معروفون واضحون لا يقبل كثير من الناس أقوالهم، وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: “إن أخوف ما أخاف عليكم بعدي كل منافق عليم اللسان”، والمتتبع لجذور الانحراف العقدي في تاريخ المسلمين يجد المنافقين وراءه. سبب ظهور النفاق في المدينة أسبابه وأنواعه عَرَّف الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى النفاق، وذكر أنواعه وسبب ظهوره فقال: (النفاق: هو إظهار الخير وإسرار الشر، وهو أنواع: اعتقادي: وهو الذي يخلد صاحبه في النار، وعملي: وهو من أكبر الذنوب.. وهذا كما قال ابن جريج: المنافق يخالف قوله فعله، وسره علانيته، ومدخله مخرجه، ومشهده مغيبه. وإنما نزلت صفات المنافقين في السور المدنية، لأن مكة لم يكن فيها نفاق، بل كان خلافه، من الناس من كان يظهر الكفر مستكرهاً وهو في الباطن مؤمن، فلما هاجر الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة وكان بها الأنصار من الأوس والخزرج، وكانوا في جاهليتهم يعبدون الأصنام على طريقة مشركي العرب، وبها اليهود من أهل الكتاب على طريقة أسلافهم، وكانوا ثلاث قبائل: بنو قينقاع حلفاء الأوس والخزرج (وبنو النضير وبنو قريظة) وقَلَّ من أسلم من اليهود إلا عبد الله بن سلام -رضي الله عنه- ولم يكن إذ ذاك نفاق أيضاً، لأنه لم يكن للمسلمين بعد شوكة تخاف، بل قد كان -عليه الصلاة والسلام- وَادَعَ اليهود، وقبائل كثيرة من أحياء العرب حوالي المدينة، فلما كانت وقعة بدر العظمى، وأظهر الله كلمته، وأعز الإسلام وأهله، قال عبد الله بن أبي بن سلول وكان رأساً في المدينة وهو من الخزرج، وكان سيد الطائفتين في الجاهلية، وكانوا قد عزموا على أن يملكوه عليهم، فجاءهم الخير وأسلموا واشتغلوا عنه، فبقي في نفسه من الإسلام وأهله، فلما كانت وقعة بدر قال: هذا أمر قد توجه (يعني انقضى)! فأظهر الدخول في الإسلام، ودخل معه طوائف ممن هو على طريقته ونحلته، وآخرون من أهل الكتاب، فمن ثم وُجد النفاق في أهل المدينة، ومن حولها من الأعراب، فأما المهاجرون فلم يكن فيهم أحد يهاجر مكرهاً، بل يهاجر فيترك ماله وولده وأرضه رغبة فيما عند الله في الدار الآخرة). صفاتهم يبطنون الكفر ويظهرون الإسلام: كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} فهم في معاملاتهم وحلاوة ألسنتهم في الكلام تحسبهم مؤمنين، والله يكشف حالهم ويفضحهم إلى الأبد ليقول: (وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ) بل حقيقتهم الكفر وبغض الدين. المخادعة والمكر قال تعالى: {يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ} البقرة. فيحصل الخداع منهم لله ولرسوله وللمؤمنين ويكون ذلك بإظهارهم ما أظهروه من الإيمان مع إسرارهم الكفر، فيعتقدون بجهلهم أنهم يخدعون الله بذلك، وأن ذاك نافعهم عند الله، وأنه يروج على بعض المؤمنين، وبين سبحانه أن هؤلاء بجهلهم وغرورهم ومخادعتهم إنما يخدعون أنفسهم الدنيئة والقاصرة في نفس الوقت. قلوبهم مريضة قال تعالى: {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} المرض هو الشك في حقيقة هذا الدين وصلاحيته لحكم الأرض والدنيا بأجمعها، قال ابن عباس: في قلوبهم مرض: أي شك، وكذا قال جمع من علماء السلف، وقال بعضهم: أي في قلوبهم رياء، (إن في طبيعتهم آفة.. في قلوبهم علة.. وهذا ما يحيد بهم عن الطريق الواضح المستقيم.. ويجعلهم يستحقون من الله أن يزيدهم مما هم فيه: (فزادهم الله مرضاً) فالمرض يُنشئ المرض.. والانحراف يبدأ يسيراً.. ثم تنفرج الزاوية في كل خطوة وتزداد، سنة لا تتخلف..). (ولهم عذاب أليم) أي مؤلم لأجسادهم وقلوبهم بسبب صنيعهم الذي سلكوه في حياتهم مع الناس، تلك الحياة النكدة، المكدرة بالكذب، والخداع، والتحايل على البشر..