يبدو مفجعاً أن يكون من الآثار السلبية لثورات الربيع العربي ظهور انقسامات حادة في المجتمعات العربية باتت تهدد وحدة الأمة وتستدعي تساؤلات حول الفهم العام لبنيتها التي توشك أن تظهر هشاشة كان يخفيها تماسك سلطوي، كشف انهياره عن ضعف مريع في العقد الاجتماعي الذي يتعرض اليوم لهزات ارتدادية يعود بعضها إلى تاريخ بعيد. وما أظن أن الفكر العربي كان غافلاً عن حقيقة هذا الكمون التاريخي عند كثير من فئات المجتمع التي بدت متصالحة بفضل قوة الدولة القومية التي فرضت رؤيتها على الجميع، فقد كتب المفكرون والمثقفون العرب كثيراً عن التعددية وعن قضايا الأقليات وعن الإثنيات والأعراق في الوطن العربي، وطالبوا بحلول عادلة ومنصفة تضمن الأمن الاجتماعي وتعمق ما بدا عيشاً مشتركاً بين المكونات المختلفة للنسيج الاجتماعي، ولكن التطبيق العملي استعان بقوة الدولة على ستر عيوب التصالح القائم، حين تم التفاعل بين المكونات على أسس الولاء للدولة، وليس على أسس العدالة والمساواة في حقوق وواجبات المواطنة، ولم تخل تطبيقات العيش المشترك في الوطن العربي من أفضليات فرضتها نظرية الولاء للدولة التي جعلت حقوق المواطنين مرتبطة بها أكثر من ارتباطها بالمرجعيات الشرعية. وقد تفاوتت التجارب في البلدان العربية، بحجم التفاوت في حضور التعددية وبين كونها فكرية أو سياسية أو عرقية أو دينية أو مذهبية أو طائفية أو قبلية، وقد كشفت ثورات الربيع العربي أن الانقسامات الحادة ليست حكراً على الطائفية، فقد بدت التعددية السياسية هي القضية الأولى، ولم تكن قضايا الأعراق أو المذاهب في الواجهة، فالأمازيغ الذين يشكلون حيوية مهمة في المجتمع المغاربي يجدون في ثورتي تونس وليبيا فرصة لحفاظ أكبر على خصوصياتهم الثقافية، وقد سبق أن حفظها لهم التاريخ الإسلامي عبر كل العصور لأن العقد الاجتماعي الإسلامي لا يهتم للقوميات أو الأعراق، ولكن تشكل العقد الاجتماعي الراهن على الأسس القومية دعا كل القوميات للبحث عن هوياتها الثقافية وهذا مشروع أيضاً. ولئن كان الإسلام قد وحد بين المسلمين والمؤمنين بالديانات السماوية في الحقوق والواجبات، وألغى كل تمييز عرقي أو عنصري، وحفظ لمن يكفرون به حقوقهم الإنسانية تحت شعار حرية العقيدة (لا إكراه في الدين) وأتاحت دوله المتتالية لكل الأعراق أن تحافظ على مكوناتها الثقافية واللغوية في دولة شملت جل العالم القديم في العصرين الأموي والعباسي، فإن أول من أحس بالضيم والإبعاد والإقصاء هم العرب أنفسهم، وقد برزت ظاهرة إقصاء العرب مع نهاية العصر الأموي الذي تحدث فيه المثقفون والمفكرون عن خطر الشعوبية، وهذا ما جعل الدولة الأموية تحرص على الحضور العربي الذي بدأ يعاني تمسك الآخرين بنزعاتهم القومية التي ظن العرب، وهم حاملو رسالة الإسلام من الصحابة وأبنائهم أن الإسلام محاها من القلوب والعقول، فلما تعرضت بغداد للغزو المغولي وسقطت دولة العرب، استولى على الحكم الشعوبيون، وتحول العرب إلى مواطنين من الدرجة الثانية، وغابوا عن مسرح الدولة قروناً، وأذعنوا لهذا الغياب بدافع ديني غرس في نفوسهم نبذ العصبيات، وبدافع إيمانهم بأنه لا فرق بين أسود وأبيض وبين عربي وأعجمي إلا بالتقوى، ولكن التطبيق العملي لهذه المساواة لم يكن لمصلحة العرب الذين أخفقوا في الدفاع عن دولتهم فبنى السلاجقة دولة قوية حكمت قرناً، ثم سقطت لتظهر دول متتابعة حكمت فيها الأقليات العرب قروناً. وليس خفيّاً على أحد أن العرب والمسلمين منهم بخاصة قدموا عبر التاريخ نموذجاً فذاً لجعل التعددية بكل أشكالها وأنماطها دافع قوة وثراء، ونحن العرب نباهي بصلاح الدين الأيوبي وبقطز وبالظاهر بيبرس، ولا ينظر أحد إلى جنسياتهم لأنهم قدموا للأمة انتصارات باهرة. وقد وجد العرب أنفسهم في حضن الدولة العثمانية بعد سقوط دول المماليك، وعانوا الكثير من تحولهم إلى مواطنين من الدرجة الثانية، ومع ذلك لولا أن الأتراك دعوا إلى الطورانية لما تحمس العرب إلى الدعوة القومية مع نهايات القرن التاسع عشر. وقد شهد القرن العشرون بداية تشكل الدولة القومية العربية، ووجد فيها دعاة النهضة حلاً لكل ما حمله تاريخ الولاء باسم الدين لأمم أخرى استبدت بالحكم وغيبت الحضور العربي، وقد كان للمفكرين المسيحيين دور كبير في إحياء الفكر القومي في مصر وبلاد الشام لكون الانتماء إلى العروبة حاضناً لكل الديانات، ولكن الدول القومية لم تنجح في تحقيق العدل والمساواة للحفاظ على التوازن الاجتماعي، بمقدار ما نجحت في ردم المشكلات تحت رماد ساخن، وقد كشفت النتائج بعد عقود أن البناء على الرماد لم يمنع انفجار هذه المشكلات، ولم يكن خافيّاً على أحد أن التعددية سلاح خطير بوسع الدولة أن تجعله قوة بيدها، وبوسع خصومها أن يجعلوه قوة ضدها، ففي فترات الاحتلال الغربي لبلاد العرب حاول المستعمرون استخدام هذا السلاح ضد العرب، وحاولوا تمزيق النسيج الاجتماعي بإثارة النعرات وافتعال المشكلات. وفي سوريا مثلاً حاول الفرنسيون تقسيمها إلى دويلات طائفية، ولكن الشعب رفض ذلك لعمق ما يمتلك من وعي سياسي وثقافي، وأبدى السوريون تماسكاً اجتماعيّاً كبيراً أوصل فارس الخوري المسيحي إلى رئاسة البرلمان والحكومة، واختار السوريون سلطان باشا الأطرش (الدرزي) قائداً عامّاً للثورة السورية ضد الاحتلال الفرنسي، وكان أكبر زعماء هذه الثورة إبراهيم هنانو (الكردي) ولم تغب طائفة أو قومية أو إثنية عن مشروع التحرير. وتم بناء دولة الاستقلال دون النظر إلى هذه التقسيمات التي بات السوريون يكرهون السؤال عنها حتى فيما بينهم ويعتزون بوحدتهم الوطنية. وكذلك كان الأمر في مصر التي ترأس الحكومة فيها مسيحيون مرات قبل ثورة يوليو، بل إن أول رئيس مصري للوزارة في مصر وهو “بوغوص نوبار” كان مسيحيّاً أرمنيّاً ولم ينكر أحد اختياره لرئاسة الوزارة ثلاث مرات. إن ما نشهده من إثارة جديدة لقضايا الأقليات يستدعي معالجة عادلة تستعيد مفاهيم المواطنة والمساواة الكاملة، ويستدعي كذلك الحذر من جعل التعددية سلاحاً بيد أعداء الأمة الراغبين في تقسيمها وتفتيت وحدة نسيجها التاريخي.