مما هو مستقر عند أولي الألباب أن القلب يمرض، وقد يشتد مرضه ولا يشعر به صاحبه لاشتغاله وانصرافه عن معرفة صحته وأسبابها، بل قد يموت وصاحبه لا يشعر بموته. وأمراض القلوب أصعب من أمراض الأبدان، لأن غاية مرض البدن أن يفضي بصاحبه إلى الموت، وأما مرض القلب فقد يفضي بصاحبه إلى الشقاء الأبدي، عياذًا بالله تعالى. ومرض القلب نوعان النوع الأول: مرض مؤلم له في الحال، كالهم والغم والحزن والغيظ، وهذا المرض قد يزول بأدوية طبيعية كإزالة أسبابه، أو بالمداومة بما يضاد تلك الأسباب، وما يدفع موجها مع قيامها، وهذا كما أن القلب قد يتألم بما يتألم به البدن، ويُشفى بما يشفى به البدن، فكذلك البدن يتألم كثيرًا بما يتألم به القلب ويشقيه ما يشقيه. النوع الثاني: مرض لا يتألم به صاحبه في الحال، وهو المراد بهذا المقال، كمرض الجهل ومرض الشبهات والشكوك ومرض الشهوات، وهذا النوع هو أعظم النوعين ألمًا، ولكن لفساد القلب لم يحس بالألم، ولأن سكرة الجهل والهوى تحول بينه وبين إدراك الألم وإلا فألمه حاصل له، وهو متوارٍ عنه باشتغاله بضده، وهذا أخطر المرضين وأصعبهما، وعلاجه إلى الرسل وأتباعهم فهم أطباء هذا المرض. فأمراض القلب التي تزول بالأدوية الطبيعية من جنس أمراض البدن، وهذه لا توجب وحدها شقاءه وعذابه بعد الموت، بخلاف أمراضه التي لا تزول إلا بالأدوية الإيمانية النبوية، فهي التي توجب له الشقاء والعذاب إن لم يتداركها بأدويتها المضادة لها. وأمراض القلوب التي من هذا النوع كثيرة جدًّا، وجماعها يرجع إلى مرضين خطرين هما: مرض الشهوات والغي ومرض الشبهات والشك. وقد جاء في وصف القلب المنكوس ما أخرجه مسلم من حديث حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عودًا عودًا، فأي قلب أُشربه نكتت فيه نُكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء، حتى تعود القلوب على قلبين: قلب أسود مربادًا كالكوز مجخيًا(أي مقلوبا)، لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا، إلا ما أُشرب من هواه، وقلب أبيض فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض”. وهذا المرضان قد ذكرهما الله في كتابه في مواضع كثيرة، وقد جمع الله سبحانه بينهما في قوله تعالى: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}. فذكر سبحانه في هذه الآية ما يحصل به فساد القلوب والأبدان من هذين الأصليين. الأول الاستمتاع بالخلاق وهو متضمن لنيل الشهوات المانعة من متابعة الأمر والثاني الخوض بالشبهات الباطلة، لأن فساد الدين إما أن يكون باعتقاد الباطل والتكلم به أو العمل بخلاف العلم الصحيح. فالأول هو البدع وما والاها وهو فساد من جهة الشبهات، والثاني فساد العمل من جهة الشهوات. وفيما يلي تفصيل لهذين المرضين كما يلي: أولاً: أمراض الشهوات أمراض الشهوات هي فساد يحصل للقلب تفسد به إرادته للحق، بحيث يبغض الحق النافع، ويحب الباطل الضار، ومنشأها الهوى، فإن الإنسان يعرف الحق لكن لا يريده، لأن له هوى مخالفا لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم. ثانيًا: أمراض الشبهات أمراض الشبهات هي فساد يحصل للقلب يفسد به تصوره للحق، بحيث لا يراه حقًّا أو يراه على خلاف ما هو عليه أو ينقص إدراكه. ومنشأ أمراض الشبهات الجهل، فإن الإنسان الجاهل يفعل الباطل ويظنه حقًّا، وهذا مرض. وإنما سميت الشبهة شبهة لاشتباه الحق فيها بالباطل، فإنها تلبس ثوب الحق على جسم الباطل. ومن أمراض القلوب الشرك والذنوب والغفلة والاستهانة بمحاب الله ومراضيه، وترك التفويض إليه، وقلة الاعتماد عليه، والركون إلى ما سواه، والسخط بمقدوره، والشك في وعده ووعيده. وكثيرا ما كنت أسمع شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: إياك نعبد تدفع الرياء وإياك نستعين تدفع الكبرياء. فإذا عوفي من مرض الرياء ب {إياك نعبد} ومن مرض الكبرياء والعجب ب {إياك نستعين} ومن مرض الضلال والجهل ب {اهدنا الصراط المستقيم} عوفي من أمراضه وأسقامه، ورفل في أثواب العافية وتمت عليه النعمة، وكان من المنعم عليهم غير المغضوب عليهم وهم أهل فساد القصد، الذين عرفوا الحق وعدلوا عنه والضالين وهم أهل فساد العلم، الذين جهلوا الحق ولم يعرفوه). ثم بيّن – رحمه الله تعالى – أن سورة الفاتحة شفاء لأمراض القلوب والأبدان. وقال أيضًا: (جماع أمراض القلب هي: أمراض الشبهات وأمراض الشهوات، والقرآن شفاء للنوعين). ولهذا سمى الله كتابه شفاء لأمراض الصدور، فمن في قلبه مرض شبهة أو شهوة ففي كتاب الله من البينات والبراهين القطعية ما يميز الحق من الباطل، فيزيل الشبهة المفسدة للعلم والتصور والإدراك. وفيه من الحكمة والموعظة الحسنة بالترغيب والترهيب والقصص التي فيها عبرة ما يوجب صلاح القلب.