بقلم: رسول طوسون في ال24 من الشهر الماضي، شهدت تركيا حدثا لفت انتباه الكثيرين، يتعلق الأمر بتسجيلات صوتية تضمنت ما قيل إنها مكالمات هاتفية بين أردوغان ونجله بشأن مبالغ ضخمة تدعي التسجيلات أنها موجودة في منزل بلال وأن والده ينصحه بإخفائها حتى لا تتمكن الشرطة من العثور عليها. ويبدو أن الغرض من بثها كان إثارة الشكوك والشبهات حيال رئيس الوزراء التركي لتأجيج الغضب السياسي والشعبي قبيل انتخابات ستجرى في نهاية الشهر الجاري. وفور بث التسجيلات قام حزبا الشعب الجمهوري والحركة القومية بجمع هيئتي إدارتهما لدراسة (الحدث الهام)، وفورا أيضا دعا رئيس حزب الشعب الجمهوري أردوغان إلى الاستقالة، وأدلى رئيس حزب الحركة القومية ببيان شديد اللهجة. وبعد مدة قصيرة جدا من بث التسجيلات أصدرت رئاسة الوزراء التركية بيانا ذكرت فيه أن التسجيلات الصوتية على موقع يوتيوب التي يزعم فيها أن أردوغان طالب ابنه بالتخلص من مبالغ مالية كبيرة في اليوم الذي نشرت فيه أنباء عن تحقيق بشأن الكسب غير المشروع في حكومته هي تسجيلات مزورة وغير صحيحة على الإطلاق، وهي نتاج عملية مونتاج غير أخلاقي. وتوعد البيان الذين اختلقوا تلك (المؤامرة القذرة) التي تستهدف رئيس وزراء جمهورية تركيا بالمحاسبة في إطار القانون. وإذا عدنا إلى التسجيلات الصوتية المنسوبة إلى أردوغان ونجله نلاحظ تباينات عديدة تعكر صحة ومصداقية التسجيلات من عدة جوانب سنذكرها بغض النظر عن شرعية التنصت على رئيس الوزراء وتسريبها إلى مواقع التواصل الاجتماعي. أولا: الأصوات الموجودة في التسجيلات مشابهة إلى حد ما لصوت أردوغان (مع احتمال تقليده)، ولكنها ليست مشابهة بأي حال لصوت نجله بلال الذى أعرفه يقينا. ثانيا: أسلوب الحديث الذي ظهر في الصوت المنسوب لأردوغان ليس أسلوب أردوغان الذى أعرفه يقينا أيضا، حيث الأسلوب الخائف والصوت الخافت في التسجيل لا يتطابق مع طبيعة أردوغان الجريء. ثالثا: الصوت المنسوب لنجله بلال يعطى انطباعا بأنه رجل أبله لا يفرق شماله عن يمينه، والحقيقة غير ذلك، إذ إن بلالا نجل أردوغان رجل واع حصيف يفهم الجملة من أول كلمة خلافا لما يبدو في التسجيلات التي جعلته رجلا لا يفهم كلام والده ويطلب منه إعادة كلمته ثم يسأل أسئلة تافهة بسيطة لا تنسجم مع طبيعة بلال الحقيقية. رابعا: جاء في الكلام المنسوب لأردوغان تحذير لبلال من إفصاح الكلام، لأن هاتفه تحت التنصت، ومع هذا يواصل كلامه ويوصيه بإخفاء المبالغ ويذكر أسماء! وفي الأمر ما فيه من التناقض. خامسا: ثبت أن بعض الأوقات التي ذكرت في التسجيلات يستحيل لأردوغان أن يتكلم فيها هاتفيا، لأنه كان في اجتماعات وبنفس الأوقات مع مسؤولين. سادسا: وقعت في مواقع التواصل الاجتماعي مكالمات طاقم المونتاج الذى أعد التسجيلات أيضا، حيث يقول أحدهم أصبح مونتاجا ممتازا، ويقول آخر كان من الممكن أن نصنع أجود من هذا، وتقول أخرى لكن صوت بلال نجل الرئيس لا يشبه صوته الأصلي، ويجيب آخر من يعرف صوت بلال؟ من جانب آخر عندما استمع خبراء في الموضوع معارضون لأردوغان إلى التسجيلات الصوتية واعترفوا بأنها ممنتجة ومفبركة. وإذا نشّطنا الذاكرة نرى أن أردوغان طالب قبل شهرين في خطاب له نواب حزبه والمنتمين له أن يستعدوا لمواجهة صراع مع المعارضة الوطنية والدولية التي لن تستنكف عن افتراءات وأكاذيب ستلجأ إليها لأهمية الانتخابات المحلية المقبلة التي ستلعب دورا هاما في نتائج انتخابات الرئاسية في أوت المقبل والنيابية في السنة المقبلة. لو كانت التسجيلات الصوتية صحيحة لتوارى رئيس الوزراء عن الأنظار، واستحيى من الخروج أمام الناس واستقال فورا، واعتزل الشأن العام، كما حصل لرئيس حزب الشعب الجمهوري السابق دنيز بيقل حيث انزوى إلى منزله بعد بث صور جنسية فاضحة له مع نائبة من حزبه واستقال من منصبه. عكسا لذلك شاهدنا مكتب أردوغان بعد مدة قصيرة من بث التسجيلات ينفي التسجيلات ويستهجنها، ثم في اليوم الثاني أي يوم الثلاثاء صعد إلى منبر في اجتماع النواب المفتوح للإعلام، وتحدى -في ثقة بالنفس- الذين يحاولون إضعافه بتلك التسجيلات المزورة وغيرها، وتحدى كذلك المعارضة التي أرادت استغلال تلك الفرصة. وأعلن أن ما حصل مؤامرة قذرة لن يستسلم أمامها ولن يركع وسيحاسب المعارضة في صناديق الاقتراع وسيحاسب المتآمرين أمام القضاء. جدير بالملاحظة في هذا الصدد أن التنصت على رئيس الوزراء يتجاوز صلاحية شرطي يعمل تحت إمرة وزير الداخلية التابع لرئيس الوزراء. وخلاصة القول، يمكن القول إن الأمر له أبعاد سياسية عالمية وإنه ليس فضيحة، بل مسرحية سياسية تهدف لزعزعة الاستقرار السياسي في تركيا، واستغلال الفرصة لتحقيق مصالح اقتصادية وإستراتيجية بعيدة المدى.