بقلم: عبد القادر حمداوي إن الوطن يصنعه أبناؤه بمبادرتهم وإبداعاتهم وسواعدهم وأموالهم وصدق عواطفهم، وإن وطننا الجزائر اليوم أحوج من أي بلد آخر إلى صدق أبنائه في بنائه وإلى تفانيهم في خدمته. أعتقد أن أصدق مثال في هذا الشأن قول القائل: ما حك جلدك غير ظفرك. اتهمت اللغة العربية بالعجز عن الإبداع ومواكبة العصر. إن العصر يسير بسرعة في تطوره وقوة حركته وكثرة مفاجآته العلمية والفكرية. وهمشناها وأحلناها إلى زاوية الركون والركود بل تنكرنا لها وتركنا الغوص فيها وأبحرنا إلى لغات أخرى بحثا عما يسمح لنا بالتقدم والازدهار ويسمح لنا بالاندماج في الفكر العالمي بالحصول على الصفات العلمية والمنهجية، والتفاعل مع الآخر، فقيل عنها ما قيل ظلما وعدوانا وتجنبا، وألقيت عليها التهم لأنها في رأي معظم المتعلمين غير قادرة على مواكبة التطور العلمي والحضاري ولا تساعد في فهم النظريات العلمية المتطورة وهي في رأي بعض دارسي العلوم الإنسانية عاجزة على التفاعل مع النظريات الإنسانية الحديثة، ضعفت الحماسة للغة العربية نتج عن العامل الأول مرض خطير على اللغة العربية هو ضعف الحماسة لها وضعف العصبية القومية نحوها عدد من يحمل ضدها فكرة خاطئة عن حقيقتها وطبيعة هذا العنصر. عائق كبير في استرجاع مكانتها التي فقدتها بسبب التخلي عن المحافظة عليها وبالتشبع حرمت من حمايتها وصيانتها، فضلا عن مساعدتها على التطور لتساير مسيرة الحياة المتجددة المتغيرة بسرعة فائقة، فقد لجأ أصحاب هذا الرأي إلى لغات أخرى وتحمس لها واندمج فيها وفي فكرها وترك لغته الأم انطلاقا من هذا الزعم. وصارت المعرفة باللغة العربية عند بعضهم مرادفة للجهل والأمية. ماذا يبقى للغة العربية؟ في الحقيقة أن هذا النفور من اللغة العربية أو عدم التحمس لها أو رفض قبول التعامل بها كلغة اتصال وتعلم وتكوين ولغة انفتاح على العالم، ولغة اندماج مع الغير ولغة قضاء مآرب وبلوغ أهداف. إن كل هذا ناتج عن هاجس خوف أبنائها من العولمة التي غزت ديارهم وأهليهم ومست قلوبهم الراجفة وعقولهم الممسوسة فصدقوا ما قيل لهم وطبقوا ما أملي عليهم وروجوا ولوحوا أن اللغة العربية عاجزة عن استيعاب العلوم المعاصرة وغير قادرة على مواكبة تطورات العصر المتلاحقة، فنبذوا لغتهم ظهريا وقلبوا لها ظهر المحن وسافروا وغربوا وشرقوا خارج سراياهم وتغنوا بغير ألحانهم، فكانت اللغة العربية الأم هي الضحية، إذ أصبحت عندهم من سقط المتاع الذي لا يصلح لشيء. هذه الانهزامية والخذلان يهددان اللغة العربية لأنهما يمنعان أصحاب هذه اللغة من معرفتها حق المعرفة ويحجبان عنهم النور الذي ينير دروب هذا الكيان ليتعرفوا على خصائصها وجمالياتها ويحجزان عنهم الرؤية المستقبلية لهذه اللغة ليصدوا عنها أحكاما جائرة تؤثر على علاقتهم الإيجابية بها، هذا ما يضعهم في خانة المعادي لها أو المحتقر لها أو المستهين بقيمتها ومكانتها. تهيمن المحيط للغة العربية عن الحياة العامة، حيث تهاونت فئات كثيرة وجماعات غير قليلة في تهميش اللغة العربية في حياة المنتمين إليها عن غير وعي أحيانا وعن جهل وأمية في أغلب الأحيان وعن قصد ترصد وسبق إصرار في كثير من الأحيان، وعن نية مبيتة وتخطيط محكم للقضاء على هذه اللغة في بعض الأوقات وبعدها الإجهاز على الهوية. الإجهاز على الهوية تعاون البيت والشارع وبعض الهيئات المحسوبة رائدة وموجهة وقائدة للمجتمعات العربية الإسلامية وتضافرت على خنق اللغة العربية تخلق مشاكل لها كالمؤسسات التربوية والتكوينية والجمعيات الثقافية والرياضية، وسفراء هذه اللغة في المنتديات والتجمعات والتظاهرات والاحتفالات. ماذا يبقى للغة العربية من مساحة تنشط فيها ؟ وكيف لها أن تبرز في ظل هذا الحصار المضروب عليها بإحكام وتحكم، وأنى لها أن تتخطى عتبات محيطها لتحلق في الفضاء العالمي وهي تعاني هذا القهر والحيف والظلم في وسطها حتى غدت غريبة في دارها فمن يقبلها وعاء للفكر العالمي وقد أهانها أهلها ونبذوها ورفضوها خاوية لفكرهم وحاملة لثقافتهم وحامية لشخصيتهم وناقلة لمشاعرهم ولنا أن نتساءل مع المتسائلين: ماهي مكانة اللغة العربية ومكانها في ديارها ؟ وما هو مستقبلها في أوطانها ؟ ذلك قبل أن نبحث عن مكانها في العالم. مزاحمة اللغة باللهجات المحلية للغة العربية : إن اللغة العربية وجدت ضرات كثيرة في ساحاتها وفي حرمها أضرت بوظيفتها ورسالتها واصطدمت بمزاحمة شديدة من طفيليات في قضائها الذي تتحرك فيه، إنها اللهجات المحلية التي ملأت حياة الناس وشغلت فكرهم ومالوا إليها على حساب اللغة العربية الفصيحة. بل تجاوز هذا إلى تبني مشروعات مدروسة لضربها وزحزحتها من الوجود بأبعادها عن حياة الناس ويكون الخطر أكبر حتى يكون التدريس بها حتى فيما يتعلق أو يتصل بفروع اللغة العربية نفسها ويستفحل أكثر حين تستهدف بالمناهج المسطرة فئة الشباب الذين هم عماد المستقبل ومحط آمال الأمة في حمل مقوماتها وقيمها هناك تكمن عداء للغة العربية وغالبا ما تقصد الفئات الشبانية التي لا تكون محصنة بالثوابت والمقومات الحقيقية لشخصيتها من أسلحة هؤلاء تقدم معلومات خاطئة عن تاريخ هذه اللغة ودخولها إلى أوطانها وكثيرا ما توصف بأنها جاءت مستعمرة ومزحزحة للهجات التي كانت سائدة قبل مجيئها ومنها تزويد المغرر بهم بمعلومات مشوهة لطبيعة اللغة العربية وهي عدم صلاحيتها لمواكبة التطور والتقدم بل هي من أسباب تأخر الشعوب التي تتمسك بها إلى غير ذلك من الادعاءات الباطلة الغادرة والهجمات الساخرة. إن المثقف الذي يدير شأنه الفكري والآدمي والإبداعي باللغة العربية وهو يخط ويكتب ويدون وينشر ويسجل ثم إذا حاول أو إذا ارتجل أو تحدث عبر أمواج الأثير أو على شاشات المرايا توسل بلغة العامية لهو مثقف متواطئ على ذاته الثقافية ولا يعنيك منه ما قد يبدو عليه من نزعة المجهود الأدبي انساق مع الكسل الذهني أو اتقاء لركوب المحاذير أنه يهيئ المشهد الأول من براديجية الانتحار الجماعي. اليوم عرفنا بروز اللهجات المحلية (العامية) وكأنها لغة ثقافة رسمية وصرنا نسمع المسئولين الكبار ونجوم المجتمع كالفنانين والرياضيين بالعامية والفرنسية وفي هذا ضرر كبير. لأن هؤلاء يمثلون رموزا ونجوما اجتماعية يميل الناس إلى تقليدهم من اللباس والتصرفات وطرائف الكلام وهذا يحسن من شأن العامية ويجعلها محبوبة مقبولة، في حين تتراجع الفصحى إلى مقام خاص ويجرى تمثيلها عبر نماذج غير رمزية وغير نجومية. والخطر يكون عظيما حين يحدث في المؤسسات التربوية التكوينية الموجهة للمؤسسة والمسؤولية عن وضع قواعد البناء والأركان. انحراف من الناحية الحضارية إن للغة العربية في التعليم العالي، دور كبير في تخريج الكفاءات التي ترفع البلاد على قواعد تكون الأساس الذي تنهض به هذه الطاقات التي تسير البلاد وتوجيهه الوجهة التي يراد لها أن تكون عليه في مستقبل أيام أي وطن، هذا التعليم وقع فيه انحراف من الناحية الحضارية والثقافية بسبب تهميش مقوم رئيسي في البناء الحضاري الصحيح وهو اللغة العربية إذا همشت وفي بعض الميادين أقصيت نهائيا من التكوين والإعداد فأصبح أبناء اللغة العربية يعدون بغير اللغة العربية حتى رسخت في أذهان الأجيال الصاعدة المتلاحقة حقيقة هي أنه لا جدوى من اللغة العربية فلا مقام لها في الساحة الثقافية، ولا مقام لها في أرضهم هذه معضلة ومشكلة تلحق الأذى باللغة العربية أولا وتمنعها من أي تنتقل إلى العالمية، ثانيا بهذا التصرف المشين المهين للشخصية الحقيقية مثل البحوث والدراسات تؤكد أن التعليم العالي قد انحرف عن واقعه العربي وضعف في الجانب التنموي لأن تعليم مستورد من ثقافات أخرى في محتواه ولغته، ومازالت قضية تعريب التعليم العالي في محتواه ولغته راكدا. فإن دولة عربية واحدة فقط سورية قد خطت خطوات جادة في طريق تعريب التعليم كافة، والتعليم العالي منه بخاصة، وبالرغم من المشاكل والمعوقات التي تواجه هذه الجهود بسبب فردية العمل فإن النتائج ستكون آثارها إيجابية على التعليم السوري بصفة خاصة والعربي بصفة عامة خوف الغرب من تزايد الوزن الحضاري للغة في المستقبل مما يرعب الغرب ويقضي مطبعة تتناسى انتشار اللغة العربية وازدياد حضورها في المجتمعات العلمية والمؤسسات الثقافية، يحدث هذا بعد ركود وجمود أصاب اللغة العربية، سمح للغرب أن يتطاول على العالم ويفرض إرادته ومشروعاته هو يعلم جيدا حقيقة هذه اللغة وما تتمتع به من قوة وأصالة جعلت منها في الماضي وعاء ثريا وقويا لبناء الحضارة الإنسانية ومصدرا كبيرا للفكر العالمي. فأعلامه وأقطابه يعرفون جيدا أنهم وأسلافهم تعلموا من هذه اللغة بروزها بشكل قوي من جديد يفوض على مخططاتهم ويفسد كل مشروعاتهم، لهذا يرون أنه لا مفر ولا مناص من محاربتها بكل الطرق والوسائل هاجسهم هذا مبني على معطيات موضوعية إلى جانب معرفتهم الكاملة بخصوبة هذه اللغة وقدرتها على الإبداع والتطوير وهو ما يبرز لغاتهم إذا ما أتيح أن تتحرك بحرية وطلاقة فهي لغة حوالي المليار من العرب والمسلمين الذين يشكلون رقما له وزنه في تحريك الحياة العامة أي أن العربية هي مرجعيتهم التي يلذون بها في الصدور في نشاطهم وحركاتهم. مكافحة المسخ إن اللسان العربي حامل تراث وناقل معرفة وشاهد حتى على الجذور التي استلهم منها الغرب نهضته الحديثة في كل العلوم النظرية والطبية والفلسفية وهو بهذا الاعتبار يخيفهم أكثر مما يخيفهم اللسان الصيني أو الهندي، ولا يغفل هؤلاء المهندسون والثقافيون الساهرون على برمجة الذهن الجماعي في عصر الأممية والكونية عن الرسالة الحضارية والروحية التي حملت بها اللغة العربية وهم العارفون بأن التماشي بين اللغة العربية والهوية لم يبلغ تمامه الأقصى في الثقافات الإنسانية مثلما بلغة عند العرب بكل إصرار تاريخي وبكل تواتر فكري واجتماعي ونفسي، هذا الهلع من اللغة العربية يسوق الغرب بدافع الكراهية والحسد وحب السيطرة والهيمنة إلى اتخاذ إجراءات عدائية وارتكاب جرائم ثقافية في حق اللغة العربية حتى لا تبرز في الساحة الدولية بالشكل الذي يهدد مصالح الغرب ويجهض مشروعاته وهذا تحدٍ آخر خطير وكبير يواجه اللغة العربية ويقف حاجزا وعائقا في طريق عالميتها وحضورها في الفكر العالمي بقوة. هذه بعض المعيقات التي تعترض سبيل اللغة العربية حتى تسير نحو العالمية وتقدم إسهامات مجدية وكبيرة للفكر العالمي كما كانت عليه من قبل. يجب إزالة هذه المعيقات قبل الحديث أو تقويم دورها ومكانتها وحضورها أو علاقتها بالفكر العالمي حتى لا نظلمها بإصدار أحكام جائرة نحوها، كما لا ينبغي أن تتجاهل هذه الحقائق ونحلم بأن لغتنا بخير وأننا بها نبلغ كل هدف ونحقق كل مأمول شفيعنا ومؤزرنا وساندنا في هذا ماضيها المشرق وإنجازاتها الكبيرة وريادتها القديمة للفكر العالمي، ولهذا على الأجيال اللاحقة من معرفة التضحيات الكبيرة التي قام بها أجدادهم وآبائهم في سبيل صيانة هذه اللغة وبشأن الأهداف التي حققتها كان لها الصدى الكبير لمكافحة المسخ وضرورة حمل الأستاذ والباحث والعالم والمثقف بالاهتمام والاعتزاز بهذه الملحمة المليئة بالبطولات مع الوطن والحرص كل الحرص والمحافظة عليه.