البيئة الربوية تثير الشكوك حول عمل المصارف الإسلامية تعدّ تجربة البنوك الإسلامية في الكثير من دول العالم تجربة حديثة إلى حدّ ما ومع ذلك استطاع هذا النّوع من المصارف تحقيق نجاحات باهرة في وقت قياسي لتصبح منافسا قويا للبنوك التقليدية، بل وبديلا لها في الكثير من الأحيان بما أنها تعتمد على صيغ مستمدّة من الشريعة الإسلامية فيما يتعلّق بالقرض والاستثمار، مبتعدة عن الفوائد الربوية التي تفرضها المصارف التقليدية وتثقل بها كاهل المقترض، سواء في حال الربح أو الخسارة. وبالرغم من أن هذه المصارف تسعى دائما إلى التقيّد بأحكام الشريعة الإسلامية في جميع الخدمات المقدّمة وبمختلف صيغها إلاّ أنها لم تسلم من الانتقاد والتشكيك والشبهات، لا سيّما وأن أكثرها يعمل في ظلّ بيئة ربوية ويخضع لنفس قوانين وشروط البنوك التقليدية، وبينما تتحدّى كثير من البنوك الإسلامية الربا والمعاملات المحرّمة وتواصل تحقيق نجاحات عالمية تواجه عقبات بالجملة في الجزائر التي يُفترض أن تتلقّى بها كلّ التسهيلات باعتبارها دولة مسلمة. أمام هذا النّجاح الذي تحقّقه الصيرفة الإسلامية في العالم وفي الجزائر التي تبنّت الفكرة منذ حوالي عشرين سنة من خلال بنك البركة وكلّ العراقيل التي تتعرّض لها هذه البنوك ارتأت (أخبار اليوم) أن تخصّص ملفا من جزءين من أجل تعريف القارئ أكثر بهذه التجربة الناشئة، وسنحاول من خلال الجزء الأوّل التطرّق إلى جذور ونشأة الصيرفة الإسلامية والنّجاح الذي حقّقته مع طرح بعض التوقّعات التي تنبئ بتطوّر قياسي لها خلال السنوات القليلة المقبلة، كما سنحاول إبراز بعض الشبهات التي تلاحق البنوك الإسلامية وردود المتخصّصين حولها، أمّا الجزء الثاني فسيكون خاصّا بتجربة البنوك الإسلامية في الجزائر والعراقيل التي تتعرّض لها بالرغم من الطلبات المتزايدة على الخدمات البنكية الإسلامية، وسيكون لنا في هذا الصدد حوار مع بشير مصيطفى الوزير السابق والخبير الاقتصادي. من المحلّية إلى العالمية تعتبر تجربة المصارف الإسلامية حديثة العهد نسبيا، حيث مرّت فكرة الصيرفة الإسلامية قبل تجسيدها بالكثير من المحطات انطلاقا من الدعوات إلى تطبيق الطرق الشرعية في المعاملات البنكية مرورا بإجراء بعض التجارب التي لم تعمّر طويلا ووصولا إلى تجسيد الفكرة على أرض الواقع، لتنتقل المصرفية الإسلامية بذلك من المحلّية إلى العالمية. فقبل المحاولات القانونية أو النظامية لإنشاء المصارف الإسلامية قامت عدّة تجارب استهدفت إحياء الصيغ الإسلامية في بعض مجالات التمويل، ولعلّ أقدمها اختيار عبد الرحمن المهدي في السودان لصيغة المشاركة المتناقصة للحصول على التمويل بدل التمويل المصرفي التقليدي وذلك خلال فترة العشرينيات والثلاثينيات، وبعد هذه التجربة الرائدة رصدت محاولات مماثلة في ماليزيا وباكستان في أواسط الأربعينيات وأوائل الخمسينيات، لكنها لم تعمّر طويلا، وظهرت أوّل تجربة حقيقية للنّظام المصرفي الإسلامي في ريف مصر سنة 1963 من طرف الدكتور أحمد النجّار الذي أسّس ما يسمّى ببنوك الادّخار المحلّية للتعامل مع صغار الفلاّحين بجمع مدّخراتهم ثمّ تمويل مشاريعهم الفلاحية وفق أسس إسلامية. لكن الفكرة أُجهضت سنة 1967، لتنتقل بعدها إلى دول الخليج، حيث أُنشئ أوّل بنك إسلامي بالشكل الحديث في جدّة بالمملكة العربية السعودية سنة 1975 وهو البنك الإسلامي للتنمية، حيث كانت ملكيته وتعامله أساسا مع الدول والحكومات، خاصّة منها الأعضاء في منظّمة المؤتمر الإسلامي، وفي نفس السنة أُنشئ أوّل بنك إسلامي خاصّ يتعامل مع الأفراد وهو بنك دبي الإسلامي في الإمارات العربية المتّحدة. وأخذ عدد البنوك الإسلامية يتزايد خلال سنوات وبشكل سريع، حيث أشارت إحصائيات الاتحاد الدولي للبنوك الإسلامية عام 1998 إلى النمو السريع للمصارف الإسلامية خلال عقدين من الزمن، وأوضحت الإحصائيات أن عددها وصل إلى 176 مصرف يشرف على إدارة 100 مليار دولار. 800 مصرف إسلامي في العالم بحلول 2015 مع نجاح هذه الفكرة الناشئة بدأت الأنظار تلتفت إليها لتحاط بعد سنوات قليلة باهتمام دولي كبير حتى من قِبل الدول الغربية، حيث تطوّر الاهتمام الدولي بالصناعة المصرفية الإسلامية والتمويل الإسلامي بعد الأزمة العالمية عام 2008، والتي ما زالت توابعها تلقي بظلالها علي الأسواق الدولية جرّاء الديون الدولية والتعامل بالمداينات، فأضحى الاهتمام بالتمويل والمصارف الإسلامية واقعا ملموسا على الساحة الاقتصادية الدولية، فزاد بذلك عدد المصارف الإسلامية في العالم ليصل سنة 2013 إلى حوالي 500 مصرف في 60 دولة. ويقدّر رصيد التمويل بالمصارف الإسلامية تريليون و200 مليار دولار، إلى جانب ما لا يقلّ عن 330 بنك تقليدي يقدّم منتجات مصرفية إسلامية، وبلغ رصيد التمويل بتلك المصارف 300 مليار دولار. ويتوقعّ مصرفيون ومختصوّن اقتصاديون أن يصل عدد المصارف الإسلامية في العالم إلى 800 مؤسسة مصرفية بحلول عام 2015، لا سيّما بعد أن أطلقت الإمارات العربية المتّحدة مبادرة (دبي عاصمة عالمية للاقتصاد الإسلامي)، ووفق تقديرات شركة (أرنست أند يانج) إحدى أهمّ الشركات المهنية في العالم من المتوقّع أن تبلغ حجم الصناعة المصرفية الإسلامية عام 2015 حوالي 2 تريليون دولار مقابل 1.5 تريليون دولار تمّ تسجيلها شهر مارس من العام الماضي. هذا، وتمارس المصارف الإسلامية نشاطها بالاستفادة من أبواب المعاملات في الفقه الإسلامي، والاستفادة من التجارب العملية للمصارف التجارية بما لا يخالف الشريعة الإسلامية، ثمّ باستقراء الأحكام الفقهية في الجوانب المستحدثة والجديدة من المعاملات المصرفية عن طريق الاجتهاد والاستنباط من الفقهاء وعلماء الشريعة في العصر الحاضر على ضوء الأصول الشرعية المقرّرة الثابتة والنصوص الفقهية الواسعة، مع الاستفادة من التقنية الحديثة كإدخال الحاسب الآلي في المصارف الإسلامية وأجهزة الصرافة الآلية المتطوّرة وخدمة البنك الناطق. 50 بالمائة من مدّخرات العالم في يد البنوك الإسلامية نجحت البنوك الإسلامية، لا سيّما في السنوات الأخيرة في حشد مبالغ كبيرة، إذ تشير الدراسات إلى أنها تملك قاعدة ودائع تزيد عن 200 مليار دولار، وتسجّل معدل نمو سنوي يقدّر بنسبة 20 إلى 25 بالمائة، إلى جانب محفظة استثمارات مالية تفوق 400 مليار دولار وقاعدة رأسمالية يبلغ مقدارها حوالي 14 مليار دولار أمريكي، ويتوقّع متتبّعون أن تكون المصارف الإسلامية مسؤولة عن إدارة ما بين 40 بالمائة إلى 50 بالمائة من إجمالي مدّخرات العالم الإسلامي خلال السنوات العشر المقبلة، خاصّة بعد اتجاه العديد من المصارف التقليدية العريقة لفتح فروع أو نوافذ إسلامية حتى لا تخسر بعض العملاء مع تزايد الطلب على خدمات المصارف الإسلامية. كما أثبتت الدراسات أن المؤسسات المالية الإسلامية أكثر قدرة على تجميع الأرصدة النقدية القابلة للاستثمار وأكثر قدرة على توزيع المتاح من الموارد النقدية على أفضل الاستخدامات لأغراض التنمية الاقتصادية والاجتماعية، كما أنها تساهم بشكل مباشر في عدالة توزيع الدخل القومي على عكس المؤسسات المصرفية الأخرى. وإجمالا فإن الدعم الذي يمكن أن تقدّمه المصارف الإسلامية لأسواق رأس المال يتمثّل أساسا في الحجم الكمّي لما يمكن أن تضخّه أو تستوعبه المصارف والمؤسسات المالية الإسلامية من أموال بواسطة مختلف أنشطتها الاستثمارية والتمويلية، حيث نجحت المصارف الإسلامية في ابتكار أدوات مصرفية تقوم على أسس شرعية تضيف كمّية لا بأس بها وتنويعا في محتوى وأشكال الأوعية الادّخارية والقنوات الاستثمارية التي تستخدمها، والتي تعتبر خروجا متميّزا عن النمط المصرفي التقليدي كان لها دور هام في جذاب مدّخرات العالم الإسلامي، حيث تجاوزت ودائع المصارف الإسلامية في عام 2005 مثلا 200 مليار دولار، حسب بيانات المجلس العام للبنوك الإسلامية. شبهات تلاحق البنوك الإسلامية بالرغم من ابتكار المصارف الإسلامية لعدد من الطرق الشرعية في المعاملات البنكية إلاّ أن الشبهات تلاحقها، لا سيّما فيما يتعلّق بصيغ التمويل الإسلامية التي يرى كثيرون أنها لا تختلف عن التمويل الربوي الذي تقدّمه البنوك التقليدية على اعتبار أن العميل سيدفع زيادة محدّدة على مبلغ التمويل الأصلي، سواء فيما يتعلّق بالتمويل الإسلامي أو التمويل الربوي. غير أن الكثير من المتخصّصين أثبتوا أن القاعدة الشرعية الإسلامية تقوم على النّظر إلى الوسائل والحكم عليها، بالإضافة إلى النّظر إلى الناتج، فتشابه الناتج لا يعني بالضرورة التشابه مع الأحكام الفقهية، وأنه وفقا للشريعة الإسلامية فإن الغايات لا تبرّر الوسائل، إذ لابد أن تكون الوسائل والغايات مقبولة لدى الشريعة، كما يعيب البعض على البنوك الإسلامية تعاملها مع المصارف التجارية والمصارف المركزية في الكثير من الدول، لا سيّما وأن المصارف الإسلامية لا ترى أن التعامل مع المصارف التجارية والمركزية حرام، إذ أن دورها بالأساس هو دور إشرافي لا يمكن تجاوزه، وهو إشراف ضروري كي تستقيم السوق وتطبّق القوانين بصرامة، أمّا فيما يتعلّق بالمصارف التجارية فترى البنوك الإسلامية أن طبيعة الأعمال تفرض أن يكون لكلّ مصرف شبكة من العلاقات مع جميع البنوك داخلية وخارجية لتنفيذ اعتمادات مستندية للعملاء، وبالتالي الشريعة لا تمنع المصرف الإسلامي التعامل مع المصرف التجاري ما دامت المعاملات غير مخالفة للشريعة، ويرى بعض المفتين في هذا الباب أن توكيل المسلم غير الملتزم أفضل من توكيل غير المسلم وفقا لأحكام الشريعة. وبالإضافة إلى ما تقدّم من شبهات حول عمل المصارف الإسلامية يرى البعض أن هذه البنوك كثيرا ما تستغلّ علاقتها مع الهيئات الشرعية من أجل ضمان تواطئها بهدف تحليل بعض المعاملات المحرّمة والاعتماد على أصول شاذّة في الفقه الإسلامي، وهو ما برّره بعض علماء الفقه بكون الشريعة الإسلامية تتميّز بتنوّعها المذهبي والفقهي الواسع جدّا، مشيرين إلى أنه لا يخفى على المختصّ أن في هذه المذاهب خلافات في جميع المسائل الفقهية، خصوصا في باب المعاملات المالية، بل إن الخلافات قد توجد داخل المذهب الواحد، وبالتالي فإن الهيئات الشرعية تأخذ في عين الاعتبار هذا التنوّع الواسع والذخيرة الفقهية الكبيرة التي تجعلها أمام بحر واسع من الخيارات، وهو ما يدعّم اختيار ما يناسب العصر والمستجدّات بما لا يخرج عن الإطار العام للشريعة الإسلامية. وغالبا ما تلجأ الهيئات إلى ترجيح بعض الآراء على البعض الآخر وفقا لأدوات الترجيح المعروفة في الفقه الإسلامي، ثمّ إن تقاضي الهيئات الشرعية مكافآت عن عملها في المصارف الإسلامية لا يقدح في مصداقيتها واستقلاليتها. وأمام كلّ هذه الشبهات التي تلاحق البنوك الإسلامية وتقدح في مصداقيتها وتشوّه صورتها يرى متتبّعون أن تركيز كلّ الجدل الفقهي الإسلامي المعاصر إزاء المعاملات المصرفية على تحديد العائد من المدّخرات أو عدم تحديده هو ابتعاد عن جوهر القضية، فقد يكون تحديد العائد تنظيما يفيد أصحاب المدّخرات الذين هم الجانب الأضعف في المعادلة الادّخارية ويحميهم من ظلم قائم أو محتمل من أرباب المصارف الذين يمثّلون الجانب الأقوى في هذه المعادلة، فالمطلوب من الفقه الإسلامي أن يركّز على جوهر فلسفة الإسلام في النقود والأموال، أي أن تكون الأموال بدلا لعمل وليست سلعة يتاجر بها، فتأتي بأموال أو فوائد دون عمل مضاف، لذلك فإن النّظام المصرفي الإسلامي هو النّظام الذي يقيم المصارف، لا لتتاجر في المدّخرات وإنما لتوظّف هذه المدّخرات وتشارك بها في التنمية المجتمعية الشاملة لمختلف الميادين. فالمصارف الإنتاجية، أي التي تشارك بمدّخراتها في التنمية هي المصارف الإسلامية الحقّة، حتى ولو لم تسمّ نفسها إسلامية، والمصارف غير الإنتاجية التي تعمل في إعادة إقراض مدّخراتها وتعيش على الفروق بين عوائد الاقتراض والإقراض بصرف النّظر عن الأسماء التي تطلقها على هذه العمليات هي مصارف غير إسلامية حتى ولو سمّت نفسها إسلامية.