يقول صلى الله عليه وسلم: (نضّر الله امرأ سمع مقالتي هذه، فوعاها، فأداها كما سمعها)، ويقول صلى الله عليه وسلم: (بلّغوا عني ولو آية.. ومَن كَذِب عليّ متعمّدا؛ فليتبّوأ مقعده من النار). وهكذا بين التحفيز لحفظ السنة والترغيب في نقلها وعظم أجر حاملها، وبين شدة الترهيب التي وضعها النبي لمن اختلق أو لفّق رواية عنه صلى الله عليه وسلم؛ بين هذا وذاك بدأ الجموع من الصحابة والتابعين بتدوين وحفظ كلام نبيهم صلى الله عليه وسلم؛ فقيّض الله للسنة مَن يحفظها عن نبيه، كما تكفّل قبل ذلك تعالى بحفظ كتابه العزيز. وطفق الحفاظ والرواة يتناقلون الأحاديث إسناداً ورواية؛ فخاض معهم من خاض من المفسدين الوضّاعين للحديث بقصد إضلال الناس، وغيرهم من ضعفاء الحفظ، وآخرون من المدلسين الذين لا يضبطون رواية الحديث؛ حتى اصطفى الله من خلقه أقواماً لحفظ هذه السنة وضبطها على الوجه الأكمل، وكان على رأسهم الإمام الحافظ محمد بن إسماعيل البخاري. صنّف كتابه (الصحيح)، وجمع فيه أشد الأحاديث وأقواها صحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وترك أحاديث أخرى أقل صحة مما اختاره؛ فيقول إنه قد اختار الأحاديث في كتابه، وهي حوالي 7000 حديث من أصل ستمائة ألف حديث، نقّحها واختار منها هذه.. حتى جعله علماء الأمة أصحّ كتاب بعد القرآن الكريم. يقول عنه (قتيبة بن سعيد): (إنه لو كان في الصحابة لكان آية).. ويقول: (قرأت في الحديث وجالست الفقهاء والزهّاد والعُبّاد، فما رأيت -منذ وعيتُ- مثل محمد بن إسماعيل البخاري). أما الإمام (مسلم) صاحب (صحيح مسلم)؛ فحين دخل عليه قال له: (دعني أقبّل رجليك يا أستاذ الأستاذِين، ويا سيد المحدّثين، ويا طبيب الحديث في علله.. والله ليس في الدنيا مثلك ولا يبغضك إلا منافق). وقيل: (حُفّاظ الحديث أربعة: أبو زرعة، ومسلم، والدارمي، والبخاري). المنبت الكريم اسمه محمد بن إسماعيل البخاري، وُلِد يوم الجمعة الثالث عشر من شوال سنة 194ه، في مدينة (بُخارَى). وُلِد يتيماً، وخلّف له أبوه ثروة كبيرة؛ فكانت طرق الغواية منفتحة لصبي مثله يتيم، له ثروة يعربد فيها ويعيث فساداً؛ لكن بصلاح والده الذي كان عالماً، وأمه الزاهدة، بارك الله فيه وحفِظَه وهداه إلى أن يكون إماماً للمسلمين، يأخذون عنه سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم. وكان البخاري قد عَمِيَ في صغره؛ فظلّت أمه تدعو الله تعالى بالليل والنهار؛ فنامت ليلة فجاءها إبراهيم عليه السلام في المنام، وقال: (إن الله تعالى قد ردّ بصر ابنك عليه بكثرة دعائك). عمل بعدها بالتجارة وكان زاهداً وَرِعاً.. يُحكى أنه اجتمع إليه بعض التجار يطلبون شراء إحدى بضائعه بخمسة آلاف درهم؛ فقال انصرفوا حتى الغد (حتى يفكّر ويحسب)، ثم جاءه في غدٍ تجار آخرون فطلبوا منه البضاعة بعشرة آلاف؛ فقال: (إني قد نويت بيعها للذين أتوا البارحة_، ورفض بيعها لمن دفع أكثر؛ لأن نيته كانت قد استقرت على تجار الأمس.. إنها حقاً المبالغة في الورع والتقى والزهد. معجزة حفظه كان رحمه الله معجزة أوتي مَلَكة الحفظ منذ صغره.. حَفِظ القرآن كاملاً مع سبعين ألف حديث عندما كان عمره عشر سنين، وكان يقول: (أحفظ مائة ألف حديث صحيح، وأحفظ مائتي ألف حديث غير صحيح.. وليس أحد من الصحابة والتابعين إلا وأعلم مكان وزمان ولادته ووفاته). ويقول عنه (أبو بكر الكلواذاني): (ما رأيت مثل البخاري، كان يأخذ الكتاب من العلماء فيطّلع عليه اطّلاعة فيحفظ عامة ما فيه من نظرة واحدة). ومن عجيب ما يُحكى، أنه كان ذات ليلة سارحاً؛ فجاء في ذهنه أن يَعُدّ كل الرواة الذين رووْا عن أنس بن مالك رضي الله عنه؛ فعدّهم جميعاً في لحظات؛ فكانوا ثلاثمائة راوٍ. ومن عجيب حفظه أنه لما ذاع صيته أحبّ الناس أن يمتحنوا حفظه؛ فجاءوا بمائة حديث فقلبوا متونها وأسانيدها؛ إذ جعلوا متن الحديث (نص الحديث) على إسناد غيره (الإسناد هو سلسلة الرواة الذين نقلوا الحديث عن فلان عن فلان حتى النبي صلى الله عليه وسلم).. ثم اختاروا عشرة أشخاص كل واحد يسأل البخاري عن عشرة أحاديث، فاجتمع الناس، وقام أحدهم فسأل البخاري عن أحاديثه بأسانيدها المقلوبة، فقال: (لا أعرفها)، وسأله آخر.. حتى انتهوا جميعاً فقال البخاري: (لا أعرفها). وبعد انتهائهم ظنّ الناس أنه لم يعرف.. فلما فرغوا سألهم البخاري: (هل انتهيتم؟) فقالوا: (نعم)؛ فقال للرجل الأول: أما حديثك الأوّل فكذا، والثاني كذا، والثالث كذا إلى العشرة.. فردّ كل متن إلى إسناده، وفعل بالآخرين مثل ذلك؛ فأقرّ له الناس بالحفظ. وليس العجيب هنا هو حفظه فقط وتصحيحه؛ بل الأعجب كما قال الإمام (ابن حجر) إنه حفظ خطأ كل واحد في كل حديث من المائة؛ فذكر الخطأ ثم صححه. صحيح البخاري يقول البخاري كنا في مجلس علم فقال أحدهم: (لو ينشط منا أحد فيضع كتاباً في الصحيح من الحديث). ثم رأى أحد أصحابه في المنام، الرسول صلى الله عليه وسلم يمشي والبخاري يمشي خلفه يضع قدمه موضع قدم النبي صلى الله عليه وسلم. ثم رأى البخاري الرسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام بجانبه، وبِيَد البخاري مروحة يذبّ بها عن رسول الله؛ فسأل عن ذلك أحد المعبّرين؛ فقال: أنت تَذُبّ وتُبعد الكذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال البخاري إن هذه الأشياء مجتمعة حملته على وضع كتاب (الصحيح).. وسمّاه (الجامع المسند الصحيح المختصر من أُمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه). يقول البخاري إنه أخرج هذا الكتاب من زهاء ستمائة ألف حديث.. ويقول: (ما وضعت في كتابي الصحيح حديثاً إلا اغتسلت قبل ذلك، وصليت ركعتين، واستخرت الله عزّ وجلّ).. ويقول: (صنّفت (الصحيح) في ست عشرة سنة، وجعلته حجة فيما بيني وبين الله تعالى).. ويقول: (ما أدخلت في هذا الكتاب إلا ما صحّ، وتركت من الصحاح الكثير، كي لا يطول الكتاب). ولم يشهد تاريخ الإسلام مثله في قوة الحفظ ودقة الرواية والصبر على البحث مع قلة الإمكانات؛ حتى أصبح منارة في الحديث وفاق تلامذته وشيوخه على السواء. يعدّه العلماء أصح كتب الحديث، وأصح كتاب بعد القرآن الكريم، جمع فيه السنة النبوية.. ومن شدّة بركته قال عنه الإمام الحافظ (ابن كثير): (كتاب البخاري الصحيح يُستسقى بقراءته الغمام، وأجمع على صحة ما فيه أهل الإسلام). والكتاب كله هو حديث النبي صلى الله عليه وسلم؛ وكان حتى عهد قريب -أيام العثمانيين- يجتمع علماء الأزهر في قصر الخديوي حين نزول المصائب، لقراءة صحيح البخاري والتبرّك به، ثم الدعاء بزوال الغمة. ثم قيّض الله لكتاب البخاري من يشرحه من بعده؛ فشرحه الإمام (ابن حجر العسقلاني) في كتاب أسماه (فتح الباري شرح صحيح البخاري)، ونافسه في شرحه الإمام (بدر الدين العيني) في كتابه (عمدة القاري شرح صحيح البخاري)؛ لكن كتاب الإمام (ابن حجر) كان أعظم قبولاً وشهرة من كتاب الإمام (العيني). مؤلفاته - ألّف كتابه (التاريخ الكبير) في أسماء وتراجم الرجال، عندما وصل سنّه ثمانية عشر عاماً، في روضة الرسول صلى الله عليه وسلم، من حفظه، في الليالي المقمرة من كل شهر؛ وجاء الكتاب في 12 مجلدا؛ فقال عنه: (قلّ اسم في التاريخ إلا وله عندي قصة؛ إلا أني كرهت تطويل الكتاب). - ألّف كتابه (الجامع الصحيح)، وقد سبق التفصيل فيه، وهو المعروف ب(صحيح البخاري). - كما ألّف كتاب (الأدب المفرد). ابتلاؤه وجد من الابتلاء الكثير ما بين حسد بعض العلماء ممن حوله ومكر العوام وبطش الأمراء؛ فأما العلماء فمنهم من رماه بالكفر بتهمة الخوض في القرآن وقوله بأنه مخلوق، والإمام البخاري بريء من كل ذلك بما أثبته تلاميذه وأقرانه من علماء الأمة الثقات. وحتى بعد موته ظهر بعض مرضى النفوس على مدى العصور وفي العصر الحديث ليتهموه بأن كتابه يشوبه الخطأ والخلط بين الصحيح وغيره من الأحاديث، وأنه لم يبذل فيه كل جهده حتى يخرجه على الوجه الأكمل!! غفر الله للمخطئ منهم، وردّ كيد الكائدين منهم في نحورهم، لو علموا ما قضاه الإمام وقاساه في سبيل إخراج (الصحيح)؛ لعلموا عظيم فضله في حفظ كلام رسولهم الكريم. وفاته تُوفّي البخاري -رحمه الله- ليلة عيد الفطر سنة 256، وقد بلغ اثنتين وستين سنة، وروي في قصة وفاته العجب: فمن ذلك ما ذكره (عبد الواحد بن آدم الطواويسي) يقول: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم ومعه جماعة من أصحابه، وهو واقف في موضع؛ فسلّمت عليه فردّ عليّ السلام، فقلت: ما وقوفك يا رسول الله؟ قال أنتظر محمد بن إسماعيل البخاري.. فلما كان بعد أيام بلغني موته؛ فنظرت فإذا قد مات في نفس الساعة التي رأيت النبي صلى الله عليه وسلم فيها). وبعد دفنه فاح من تراب قبره رائحة أطيب من المسك؛ فدام ذلك أياماً، ثم عَلَت سوارٍ بيضٌ في السماء مستطيلة فوق قبره، فجعل الناس يتعجّبون، وبعضهم كان يسرق من التراب حول القبر لطيب رائحته، حتى ظهر القبر، فأمر الوالي بإبعاد الناس وتطويق القبر لحمايته. وأما ريح الطيب فإنه دامت أياماً كثيرة؛ حتى تحدّث أهل البلدة وتعجبوا من ذلك، وظهرت علو مكانته عند مخالفيه ومتهميه، وعلموا أنهم قد أخطأوا في حقه؛ فخرجوا إلى قبره وأظهروا التوبة والندامة، وطلبوا منه السماح مما رموه به من الفسوق ومذموم الكلام والمذهب؛ فانقطعت الرائحة بعدها. رحم الله الإمام البخاري رحمة واسعة، وجزاه خيراً عنّا وعن سنّة النبي الكريم، وحشره وإيانا مع رسوله وصحبه.. اللهم آمين.