الحق أن المثل التطبيقي الأعلى للتكامل وللتوازن بين المثال والواقع، بين القلب والعقل، بين الإيمان والعلم، بين الروح والمادة، بين الفردية والجماعية، بين حق الرب وحظ النفس، وإعطاء كل منها حقه بلا طغيان ولا إخسار -هو رسول الله صلى الله عليه وسلم- الذي أرسله الله رحمة للعالمين، وأنزل عليه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان. فنراه في مجال العبادة لربه، العابد الأول، الذي كانت قرة عينه في الصلاة، وكان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه، ويبكي حتى تبلّل دموعه لحيته، وتعجب زوجه عائشة من شدة تعبّده وبكائه، وقد غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر، فيقول لها: _أفلا أكون عبدا شكورا_. وكان يصوم الإثنين والخميس من كل أسبوع غالبا، وأحيانا يديم الصيام حتى يظن من حوله أنه سيصوم الدهر كله، وأحيانا يواصل الليل بالنهار في الصيام، فيمضي يومين أو أكثر لا يتناول طعاما، بعد الغروب، وهو ما نهى عنه أصحابه، ولهذا قالوا له: أتنهانا عن الوصال وتواصل؟ فقال: وأيكم مثلي؟ إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني، فكانت من خصوصياته صلى الله عليه وسلم. وكان دائم الذكر لله تعالى في كل أحواله، وعلى كل أحيانه، بقلبه ولسانه، وأذكاره وأدعيته ومناجاته لربه، يتجلى فيها أغنى قيم الصدق والإخلاص لله تعالى، والعبودية المتجردة لربها، كما أنها تمثل أروع المعاني، وأوضح الطموحات التي ينبغي أن ينشدها الإنسان الرباني لنفسه، ولمن يحب، مصوغة في أحلى القوالب البلاغية، وأعذب الأساليب البيانية، التي تهز البشرية من أعماقها، وهي وحدها مدرسة روحية فذة. وقد حفلت بها كتب الحديث والسيرة، وألفت فيها كتب خاصة، قديما وحديثا، لعل أحدثها كتاب شيخنا الشيخ محمد الغزالي (فن الذكر والدعاء عند خاتم الأنبياء). وكان صلى الله عليه وسلم، برغم تعبده لربه، واشتغاله بذكره، وقيامه الدائم بالدعوة إلى دينه، والجهاد في سبيله، دائم الخشية له سبحانه، كثير الاستغفار، كثير التوبة، وهذا من كمال عبوديته، وعظم مقام الألوهية عنده، وفي هذا كان يقول: (إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة)، (يا أيها الناس توبوا إلى ربكم، فإني أتوب إلى الله عز وجل في اليوم مائة مرة). وكان صلى الله عليه وسلم أزهد الناس في الدنيا، وأرضاهم باليسير منها، مع ما فتح الله له من الفتوح، وأفاء عليه من الغنائم، وبعد أن أصبح سيد الجزيرة.. ولكنه لقي ربه ولم يشبع من خبز الشعير ثلاثة أيام متوالية، وكان الشهر يمر تلو الشهر ولا يوقد في بيته نار، إنما عيشه على الأسودين: التمر والماء.. وكان ينام على الحصير حتى يؤثر في جنبيه.. ورآه عمر بن الخطاب يوما كذلك، فبكى توجعا له وإشفاقا عليه، واقترح عليه بعضهم أن يهيئوا له فراشا ألين من هذا، فقال لهم: (ما لي وللدنيا؟ ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب سار في يوم صائف، فاستظل تحت شجرة ساعة من نهار، ثم راح وتركها)! صلى الله عليه وسلم في يوم مولده قائدا ومعلما للبشرية