المعادلات الاستراتيجية تتغير بطريقة استفزازية في منطقتنا العربية، ففي الماضي كانت اسرائيل تهدد بالحروب إذا تعرضت لقصف صاروخي، من هذه الجهة أو تلك، الآن باتت التهديدات لسوريا بإعادتها إلى العصر الحجري لمجرد نقلها صواريخ إلى »حزب الله« اللبناني. والأغرب من ذلك كله أن الولاياتالمتحدةالأمريكية، الدولة الأعظم في العالم، باتت تؤيد اسرائيل في هذا الموقف »الترهيبي«، وتستعد لإعطاء الضوء الأخضر لها لشن عدوان جديد يستهدف سوريا ولبنان معا. دعم سوريا لحزب الله ليس وليد الساعة، كما أنه ليس اكتشافا يستحق كل هذه الضجة وكأنه »اكتشاف أرخميدس«، فالغالبية الساحقة من أسلحة »حزب الله« وصواريخه القادمة من ايران خصوصا كانت تمر عبر البوابة السورية، والتحالف الثلاثي السوري الإيراني وحزب الله لم يعد سرا، وجرى تتويجه باللقاء الذي انعقد في دمشق قبل شهر بحضور زعمائه الثلاثة. الجديد هو التحرش الأمريكي الاسرائيلي بسوريا، والبحث عن ذرائع للهجوم على الأخيرة، أو الضغط عليها، وبشكل ذي طابع إرهابي تخويفي، للتخلي عن حلفائها في إيران ولبنان، والدخول في عملية تفاوضية وفق الشروط الإسرائيلية. بالأمس واشنطن قالت في بيان رسمي إن سوريا تزّود حزب الله بمجموعة واسعة من الصواريخ، وإن احتمال تزويدها للحزب بصواريخ من نوع »سكود« ما زال موضع دراسة. هذه هي المرة الأولى التي نسمع فيها أن امتلاك صواريخ »سكود« بات خرقا لكل الخطوط الحمراء، ويبعث على القلق في واشنطن وتل أبيب، وكأن هذه الصواريخ ستغير موازين القوى العسكرية في المنطقة، وتنهي التفوق الاستراتيجي الاسرائيلي في هذا المضمار. نفهم مثل هذا القلق المفتعل لو أن سوريا زوّدت حزب الله برؤوس نووية، أو »قنابل قذرة«، ولكن ما يصعب علينا فهمه هو أن هذه الضجة المفتعلة هي بسبب صواريخ لم يثبت عمليا أن سوريا زوّدت حزب الله بها حتى الآن، وأن هذه الصواريخ قديمة ولا تشكل أي خطر وجودي على الدولة الاسرائيلية. فقد أطلق الرئيس الراحل صدام حسين 43 صاروخا منها أثناء حرب الكويت عام 1991 ولم تحدث أي أضرار مادية أو بشرية حقيقية. سوريا ليست محاطة بدول اسكندنافية، أو تحدها سويسرا في الجنوب والنمسا في الشمال، وإنما ابتلاها الاستعمار الغربي بجار عدواني صلف، والحال نفسه يقال أيضا عن لبنان والدول العربية الأخرى، فإسرائيل هي مصدر العدوان الأزلي على سوريا ولبنان، وهي التي أغارت على الأراضي السورية أكثر من مرة تحت أعذار وحجج واهية مثل ضرب المفاعل النووي المزعوم، وهي أيضا التي غزت لبنان أكثر من مرة آخرها في جويلية عام 2006. من الواضح أن الولاياتالمتحدة في عهد إدارة الرئيس اوباما تريد »من اسرائيل أن تعيد سوريا إلى العصر الحجري« مثلما هدد رئيس وزرائها، دون أن تكون لديها أي وسيلة، ولو كانت بدائية، للدفاع عن نفسها. نشعر بالمرارة ونحن نرى سوريا تواجه هذه الحملة الإرهابية الأمريكية الإسرائيلية وحدها، ودون أي تعاطف ولو شفهي من أشقائها العرب. لم نقرأ أو نسمع عن برقية تضامن واحدة من مصر أو المملكة العربية السعودية أو السودان أو حتى ليبيا، والأكثر من ذلك أن السيد عمرو موسى أمين عام الجامعة العربية فضّل الذهاب إلى الصومال للبحث عن مخرج لحربها الأهلية، وكيف نتوقع منه ذلك وهو الحريص على عدم إغضاب حلفاء أمريكا في المنطقة، وأحجم حتى عن زيارة المحاصرين المجوّعين في قطاع غزة بسبب ذلك. وصول السناتور جورج ميتشل مبعوث السلام الأمريكي إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة، وتصاعد الحديث عن صفقة أمريكية بإحياء المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية، مقابل التشدد مع سوريا وحزب الله، يجعلنا نضع أيدينا على قلوبنا، لأن هذه الزيارة التي تأتي في ظل استمرار عمليات الاستيطان في القدس، وعدم إجابة نتنياهو على الأسئلة الأمريكية الأحد عشر هي نذير شؤم، وقد تكون إحدى مقدمات الحرب على سوريا، ولبنان وغزة، وربما إيران أيضاً. ' ' ' توني بلير رئيس وزراء بريطانيا السابق قال في شهادته أمام لجنة التحقيق بشأن الحرب على العراق إنه كان يصعب على أمريكا وحلفائها شن حرب على العراق عام 2003 قبل وقف الانتفاضة الفلسطينية وإعادة الحياة إلى عملية السلام. السناتور ميتشل جاء إلى المنطقة للهدف نفسه، وحاملاً اقتراحاً بقيام دولة فلسطينية بحدود مؤقتة وتأجيل التفاوض على مستقبل القدسالمحتلة واللاجئين. لا نرى أي جدوى من مناشدة العرب بالوقوف إلى جانب سوريا، لأن معظم هؤلاء متواطئون مع العدوان الأمريكي الاسرائيلي القادم، نقولها بكل ألم وحسرة، فمثلما تركوا العراق يواجه الغزو والاحتلال وحده، وبتواطؤ عربي مع الغزاة، سيفعلون الشيء نفسه مع سوريا العربية المسلمة وحلفائها. إسرائيل لن تفلح بإعادة سوريا إلى العصر الحجري، ولن تركّع المقاومة في لبنان وقطاع غزة، مع تسليمنا الكامل بتفوقها العسكري الكبير، فإذا كانت أمريكا الدولة الأعظم في التاريخ لم تستطع الاحتفاظ بنصريها في العراق وأفغانستان، فهل ستستطيع اسرائيل التعايش مع منطقة ملتهبة في اليوم الثاني لانتصارها؟ الذين رقصوا على إيقاعات نشوة النصر في العراق وافغانستان يكتوون حالياً بنار هذا الانتصار التي أحرقت أصابعهم وجيوب دولهم في الوقت نفسه، ويبحثون عن مخارج مشرفة تنقذ ماء الوجه دون جدوى. سوريا وقوى المقاومة في لبنان وقطاع غزة لم تختر الحرب، ولم تقدم على أي استفزاز لإسرائيل أو أمريكا، وإذا أرادت الأخيرتان هذه الحرب، فإن الدفاع عن النفس حق مشروع كفلته كل المواثيق والأديان والقوانين الإلهية والوضعية. مرة أخرى نكررها، بأن اليابان لم تُزل من الخريطة، ولم تعد إلى العصر الحجري رغم إلقاء قنبلتين نوويتين على أكبر مدنها، وألمانيا عادت موحدة بعد الهزيمة والتقسيم، والعراق مازال العراق رغم الاحتلال والغزو، ولكن هل ستظل اسرائيل هي اسرائيل بعد الحرب المقبلة إذا ما أشعلت إوارها؟. هذا هو السؤال الذي قد تجيب عليه الأشهر المقبلة. عبد الباري عطوان. القدس العربي