"لم لا تُحرق نفسك كما فعل الشاب التونسي يا علاء؟" لم يجب علاء على تعليق رضا الساخر، وتظاهر بأنه لم يسمعه وظلّ صامتا ينظر إلى الفنجان، والى لون القهوة الأسود كسواد الحياة التي يعيشها، لم يكن يريد أن يرفع بصره، بدا له السكون موحشا هذا اليوم، كان كلّ شيء ساكنا من حوله، وحتى هو، ومنذ الصباح، ومنذ أن دخل إلى المقهى وجلس إلى الطاولة التي صار يقضي فيها كلّ ساعات النهار، ولم يبرحها، بقي كلّ شيء ساكنا فيه إلاّ أفكاره لم تهدأ ولا لحظة، كانت كلها ثورة وغضبا وتمردا، فكر في الفقر الذي يعانيه وأسرته، وفكر في الفراغ الرهيب الذي تحول إلى شبح، او إلى ظل يتبعه أينما ذهب، سئم من الفراغ الذي يُحيط به، بل يُحاصره ويخنقه في كلّ لحظة. كان كلّ شيء يتبخر في نظره، أحلامه وطموحه وأهدافه، أحس أنّ كل شيء انتهى، وأنّ ضياعا آخر ومأساة أخرى ونهاية أخرى تنتظره، إلى أن قال له رضوان صاحب المقهى: "لم لا تستسلم لواقعك يا علاء وينتهي الأمر، لم تصرّ على قتل نفسك، ملايين الشباب عاطلون مثلك عن العمل، وحتى هذا المقهى لا يحمل إلاّ البطّالين وقليلي الحظ، فلست أحسن منهم". كان علاء يسمع صوت صديقه وكأنه آت من بعيد، من عالم آخر، ثمّ راح يُردد بينه وبين نفسه: لست أحسن منهم، لكن من هم؟ ولمَ ليسوا مثلي، لمَ لا ينظرون إلى هذا الواقع التعيس، أم أنّهم يفكرون مثلما أفكر ولكن بصمت، ويموتون مثلما أموت ولكن بهدوء، ويتوجعون ويتألمون ويبكون مثلما أتوجع وأتألم وأبكي، ولكن دون صرخات وآهات ولا دموع، هل فعلا ما نحن فيه قضاء وقدر فنستسلم؟ هل كتب علينا السكون والانتظار القاسي؟ ولكن إلى متى؟ او إلى أين؟ استيقظ علاء من سهوه وضياعه على صوت محمد يقول له: "حالتك لا تسرّ حتى عدوّك اليوم يا علاء، ما ذا وقع لك؟".. أجل ما الذي وقع؟ سأل علاء نفسه، منذ ثلاث سنوات، أي منذ أن نال شهادة جامعية وهو دون عمل، فما الذي جعله ييأس اليوم، وكلّ زملائه لم يختلف مصيرهم عنه، بؤس وبطالة ومستقبل مظلم، فما الذي يقلقه، أم أنها وساوس ستذهب مع الوقت، وسيستسلم مثل الآخرين؟ صعقته فكرة الاستسلام، وكما لو أنه أراد أن يطردها من ذهنه بسرعة حتى لا تستحوذ عليه، راح يهذي مرددا، وكأنه يؤنب نفسه، او كأنه يستغفر ربه: لن أستسلم، لا بدّ من ثورة، لا بدّ من أغير شيئا، ولو صرت وحدي، ولم ينتبه علاء إلى أن صوته صار مسموعا، وإلى أنّ شابا مثله لا يعرفه كان جالسا أمامه اقترب منه وقال له، وكأنه يُطمئنه: "لست وحدك، صرنا اثنين".