بقلم: عبد العزيز كجيل* هكذا عهدنا النظام الجزائري دائما: ينحاز للأقلية الإيديولوجية ويفرض اختياراته (أي اختياراتها) على الأغلبية من غير أن يستشيرها أو يحكّمها في الموضوع وهو مع ذلك ديمقراطي تعددي عنده نواب (منتخبون) يمثلون الشعب الذي انتخبهم بطريقة (حرة ونزيهة) كما يعلم الجميع وحتى إذا تعلق الأمر بالهوية الوطنية فإنه لا يستدعي أكثر من تصويت هؤلاء النواب الذين (لولا الشهادة لكانت لاؤهُم نعم) كما قال الفرزدق. إذًا قنّن النظام للجزائر هوية جديدة لم يعرفها الأمير عبد القادر ولا أقطاب جمعية العلماء (رغم أن منهم الصنهاجي كابن باديس والقبائلي كالفضيل الورتلاني والنموشي كالعربي التبسي والحركاتي كالسعيد زموشي والميزابي كأبي اليقظان) ولا مصالي الحاج ولا من أعلنوا حرب التحرير فهذه الجزائر أمازيغية قبل وبعد الإسلام و(اللغة) المرسّمة ليست لهجة محلية لا يفهمها ولا يستعملها الجزائريون في أكثريتهم الساحقة بل هي هوية يجب أن يصطبغ بها الجميع رغم أنوفهم لأنها إرادة الأقلية الفرنكو- تغريبية لزعزعة ثوابت الأمة والتمكين في النهاية للغة الفرنسية والفكر الغربي. ويظن بعض الطيبين أن الترسيم سيقطع العشب تحت أقدام غلاة البربريست وهذه سذاجة كبرى لأن الأمر بالعكس من ذلك اعتراف بما يسمونه (النضال) من أجل هوية الجزائر الحقيقية يفتح لهم الطريق لمطالب أخرى تنجرّ حتما عن هذا الترسيم القيصري وعلى رأسها زحزحة العربية لصالح ...الفرنسية لأن هذه الأمازيغية ليست لغة بل هي لهجات قبائلية وشاوية وميزابية أو هي _ بالتحديد _ اللهجة القبائلية لا غير يُراد لها أن تكون هي اللغة الجامعة لشعب لا علاقة له بها إلا سكان منطقة معينة وهي منطقة تكذّب أحداث التاريخ ادعاءات البربريست عن عدائها للإسلام والعربية. إرث تاريخي يقول د. عمار بوحوش في كتابه التاريخ السياسي للجزائر: (في وقت (أي زمن الاحتلال الفرنسي) كانت كل المحاكم في الجزائر تعمل بالفرنسية بقيت فقط في منطقة القبائل بالعربية لإصرار أهلها على الكتابه بها). ويقول: (وفي بلاد القبائل قررت السلطات الفرنسية سنة 1906 منع القضاة والموثقين من كتابة العقود باللغة العربية وأجبرتهم على كتابتها باللغة الفرنسية لكن رجال القبائل الكبرى رفضوا كتابة أي فريضة بالفرنسية وأصروا على الكتابة بالعربية وهذا ما دفع بأحد الأوربيين المختصين في القانون إلى القول في عام 1913 بأن الجزائر ككل يغلب عليها الطابع الاسلامي والبربر لا تربطهم أية صلة بفرنسا وهم مثل العرب في هذا الشأن). ويقول: (أمّا لالّة فاطمة نسومر رحمها الله فقد كانت أستاذة لغة عربية في مدرسة توارثتها عن أجدادها وكانت هي من تديرها وتنفق عليها). هل يحتاج هؤلاء القبائل _ فضلا عن باقي الجزائريين - لهوية جديدة ابتدعها ملحدون وعلمانيون متطرفون ومتحوّلون إلى المسيحية من أمثال طاوس عمروش ومولود معمري ومعطوب الوناس وفرحات مهني وزعماء الأحزاب الطائفية ؟ إنهم يرفضون بجلاء وقوة الانتماء العربي الاسلامي لذلك يشجعون التنصير ويهمشون العربية مستصحبين سيلا جارفا من الحقائق المقلوبة وفقا لمنهج جوزيف غوبلز في إشاعة الكذب على أوسع نطاق حتى سيصدقه الناس في النهاية يقول واحد منهم هو الكاتب الفرنكوفيلي بوعلام صنصل: (هذا التعريب كان الهدف منه منع دخول الأفكار العصرانية إلى الجزائر والتي من شأنها أن تجعل الشعب ينازع السلطة وقد همّش التعريب جزءا كبيرا من الشعب البربر وخاصة القبائل ودفع بهم إلى المنفى). ...يتكلم عن نفسه وعدم انسجامه مع الفضاء العربي الإسلامي ويعمّم الأمر على أغلبية الجزائريين بمثل هذا التزييف أرغموا النظام الحاكم على استحداث هوية جديدة للجزائريين يحلّ فيها القديس أوغستين محلّ ابن باديس على أن تأتي البقية بعد ذلك ... لِمَ لا وقد وُصِف رائد النهضة الإصلاحية بالأصولي الأول على لسان تلك (الجزائرية الواقفة) أي المرأة الاستئصالية التي غدت من أبرز وجوه النظام الحاكم وناطقة باسمه كما هو مسطّر في حوارها الشهير مع إليزبيت شملة ؟ بلد المعجزات أجل ربحت الأقلية العلمانية التغريبية جولة على حساب الشعب لكننا في الجزائر (بلد المعجزات) الذي يُغير فية الحاكم الدستور وفقا للظروف أو ربما للنزوات وما عَدّه مقدسا اليوم ينزع عنه القدسية ويرميه شرّ رمية غدا فأين الاختيار الاشتراكي الذي (لا رجعة فيه) بنص الدستور ؟ وأين التعددية والفصل بين السلطات وتحديد العهدات الانتخابية ؟ ثم ما الذي يُغري الشعب المتمسك بدينه ولغته ليتبنى الهوية المصطنعة حديثا ويبارك فرضها عليه من قبل النخبة الفرنكو- تغريبية ؟ وربما قبل كل هذا يجب التساؤل: هل ستساهم الهوية الجديدة في حلّ مشاكل الجزائر التي تزيد ولا تنقص وتبلغ مستويات مذهلة من التعقيد ولا تُقابل إلا بالتجاهل أو الترقيع والوصفات الرديئة ؟ هل ستدفع هذه الأمازيغية بالبلاد إلى المراتب الأولى في التصنيف العالمي للجامعات ؟ أهي قادرة على ذلك ؟ بل هل فُرضت لهذا الغرض ؟ وهل ستعيد للجزائريين الشغف بالعلم وحبّ المطالعة ؟ هل ستصبح المكتبات مزدهرة ؟ وخاصة هل ستزحزح الهوية الجديدة اللغة الفرنسية عن ريادتها وتسلطها على المجالات الثقافية والسياسية أم أنها ستزيدها ازدهارا كما يريد غلاة الفرنكوفيل بتواطؤ ضمني من (الأمازيغ الطيبين) المبتهجين بترسيم لغتهم ؟ ألا يبصر هؤلاء كيف تتقدم الأمم كلّ يوم ونزداد نحن تراجعا ونغرق في الأزمات المفتعلة ونستريح للحلول السهلة الملغّمة ؟ إن هوية الجزائر الجديدة تفرّق ولا تجمع وتعرقل ولا تسرّع وتشدّ إلى الخلف ولا تدفع إلى الأمام أما ما جمع هذا الشعب منذ خمسة عشر قرنا وجعله لحمة واحدة ورفع مقامه بين الدول فإنما هو الإسلام واللغة العربية كما يعلم كلّ منصف لكننا ما زلنا نعاني القنابل الموقوتة التي زرعها الاحتلال الفرنسي في جسمنا. إن الوقت ليس للبكاء ولكن لشحذ الهمم لخدمة الدعوة إلى الله وترقية العربية بكثرة الإنتاج النوعي وتعميم استعمالها اقتداء بنموذج جمعية العلماء في طورها الأول.