السؤال: في الحديث أن النبي يقول: (ما من يوم طلعت شمسه إلا وملكان يناديان: »اللهم اعط منفقاً خلفاً وممسكاً تلفاً). هذا، ولكننا نرى عكس الحديث في الحياة! نرى أناسا ينفقون ويتصدقون ويفعلون الخير وهم في ضيق من العيش، ونرى غيرهم ممسكين بخلاء لا ينفقون مليما واحدا لوجه الله، وحالتهم المادية في ازدياد؛ فهل هذا الحديث صحيح أم مكذوب؟ وإذا كان صحيحا فأين خلَف المنفقين، وتلَف الممسكين؟ وردا على ذلك، قال العلامة القرضاوي: »الحديث المذكور حديث صحيح، متفق عليه. وقد ورد في معنى الحديث أحاديث أخر، كلها تؤيد هذا المعنى، منها ما رواه مسلم والترمذي عن أبي أمامة عن رسول الله قال: (يا ابن آدم، إنك إن تبذل الفضل خير لك، وإن تمسكه شر لك). وهل هناك أصدق من كتاب الله الذي يقول في الحث على الإنفاق، والانتصار على دواعي البخل: »الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم« (البقرة:268). ويقول تعالى: »وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين« (سبأ:39). قال ابن كثير في تفسيرها: »أي مهما أنفقتم من شيء فيما أمركم الله به وأباحه لكم فهو يخلفه عليكم في الدنيا بالبدل، وفي الآخرة بالجزاء والثواب. كما ثبت في الحديث، ويقول الله تعالى في حديث قدسي: (أنفقْ أنفقُ عليك). والذي أثار اللبس عند السائل إنما هو حصره للخلف والتلف في دائرة المال. والأمر أعمق من هذا وأوسع، فالخلف هو العوض الذي يكافئ به الله الغني الكريم عباده المنفقين، وهو أكرم من أن يجعله مقصورا على المال فقط، بل قد يكون صلاحا في الأهل، أو نجابة في الأولاد، أو عافية في البدن أو بركة في القليل، وقد يكون أمرا معنويا خالصا، كهداية إلى حق، وتوفيق إلى خير، وانشراح في الصدر، وسكينة في القلب، ومحبة في نفوس الخلق، وشعور بحلاوة الإيمان ورضوان الله تعالى، فضلا عما أعده الله في الآخرة لعباده الصالحين مما »لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر«؛ »فلا تعلم نفسٌ ما أُخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعلمون« (السجدة:17). إن مكافأة الله المنفقين في سبيله لأعظم من أن تقتصر على الحياة الدنيا؛ »والآخرة خير وأبقى« (الأعلى:17)، وأرفع من أن تقتصر على الرزق المادي وحده. والعارفون يعلمون أن الأرزاق الروحية أنفس وأخلد من كل ما ترنو إليه الأبصار من متاع الدنيا. وموازين الله ورسوله في تقدير الأشياء ليست كموازين أهل الدنيا. اقرأ هذه الآيات: »قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا، هو خير مما يجمعون« (يونس: 58)، »ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى« (طه: 131)، »المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا« (الكهف: 46). »من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه، ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب« (الشورى:20). واقرأ هذه الأحاديث: »ركعتا الفجر خيرٌ من الدنيا وما فيها« (رواه مسلم: عن عائشة). »لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها، وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما فيها«. (رواه البخاري ومسلم عن أنس). وإذا اتضح لنا معنى الدعاء الملك: »اللهم اعط منفقاً خلفاً« بان لنا معنى دعاء الآخر: »اللهم اعط ممسكاً تلفاً«. فالتلف هو العقوبة التي يجازي الله بها المسكين، وهو لا ينحصر في خسارة المال أيضا، ولكنه قد يتناول البدن، أو الأهل أو الولد أو العلاقة بالناس.. الخ. وقد يكون قلق النفس، وشك القلب، وضيق الصدر مما يفسد على المرء حياته، ويحرمه الاستمتاع بماله الوفير، ويحييه في عذاب مقيم، فضلا عما ادخره الله لمثله في الآخرة؛ »ولعذاب الآخرة أشق وما لهم من الله من واق« (الرعد:34). وفي بعض الأحاديث ما يفيد أن دعاء الملكين مطابق لما جاء في القرآن من قول الله تعالى: »فأما من أعطى واتقى وصدّق بالحسنى فسنيسّره لليسرى، وأما من بخل واستغنى وكذّب بالحسنى فسنيسره للعسرى« (الليل: 5،10)؛ فالتيسير لليسرى هنا مقابل لقول الملك: »اعط منفقا خلفا«. والتيسير للعسرى مقابل لقول الآخر: »اعط ممسكا تلفا«؛ مما يدل على أن الأمر أوسع وأكبر من الخلف في المال والتلف فيه.