كثير من المسلمين اليوم يستهينون بشأن الديون. وقد نرى البعض يقيمون مشاريع ويبنون مباني ضخمة عن طريق الاستدانة، حتى تتراكم الديون عليهم، ثم يعلن عن فشل تلك المشاريع، فلمَ كل ذلك وأنت لا تملك رأس المال الكافي لإقامة تلك المشاريع؟! لهذا من الضروري توعية المسلم بعظم شأن الدَّين في شريعتنا، وتوعيته بأنه لا ينبغي أن يستدين إلا في الحالات الضرورية وتكون لديه نية مؤكدة بالسداد. فعندما يلجأ الإنسان إلى الاستدانة ويكون مجبوراً على فعل ذلك فهو قضاء من الله عز وجل، ولكن هناك صوراً أخرى للدين، منها أن يستدين الإنسان بإرادته واختياره، أو أن يستدين من دون حاجة وضرورة، وفي نيته السداد؛ حيث يرى أنه يستطيع السداد في وقت لاحق، وقد يستدين دون حاجة وضرورة وليس في نيته سداد الدين، وهذا حكمه قد يصل إلى الحرمة، حسب ما يوضح لنا الدكتور عبد الله عبد الحميد أستاذ الحديث بجامعة الأزهر، والذي يؤكد ل »محيط« أنه يجب أيضاً معرفة المقصود بالحاجة والضرورة، فالحاجة والضرورة يجب أن تكونا من الأمور التي لا يستطيع الإنسان العيش بدونهما كالمأكل والمشرب والمسكن، ودون أن يتكاسل الإنسان في طلب الرزق. أما من يستدين من أجل بناء قصر أو عمارة كبيرة أو من أجل توسيع تجارته فيختلف الأمر في ذلك، فهناك فرق بين وقوع الإنسان في الدين وبين أن يوقع هو نفسه بالدين بسبب تقصيره في طلب الرزق. ويضيف الدكتور عبد الله: »لقد حثنا الإسلام على أن نقرض المعسرين، فقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (ثواب الصدقة بعشر أمثالها والقرض بثمانية عشر)، وذلك لأن الإنسان يتعلق بالمال، فإذا أقرض شخص ما مالاً لغيره يحب أن يرجعه إليه خاصة وقت الضيق، ولذلك كان ثواب القرض أعظم من ثواب الصدقة. والشريعة وجهتنا لأن نستدين من بعضنا البعض وقت الحاجة، لكنها في الوقت ذاته حذرتنا من الوقوع تحت الدَين، فقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في أول الإسلام إذا أتي بالجنازة يسأل: »هل على صاحبها من دين؟ فإن قالوا: »لا«، صلى عليها وإن قالوا: »نعم«، أبى أن يصلي حتى يوفي ورثتُه الدين، وذلك لخطر الدَين وعظمة مكانته«. ويقول الدكتور مبروك عطية الأستاذ بجامعة الأزهر: »يقول الرسول الكريم صلوات الله عليه: »أعوذ بالله من الكفر والدين، قال رجل: »يا رسول الله أتعدل الدين بالكفر؟ فقال رسول الله: »نعم«. فالمؤمن الصادق لا يستدين إلا بالقدر الذي يستطيع أن يؤديه، والإنسان عندما يستدين مبلغاً لا يستطيع أداءَه نجده يقع في حالة نفسية صعبة لانشغاله بهذا الدين، فهو ذليل في النهار ومهموم في الليل، فالمؤمن الصادق لا يستدين إلا لحاجات أساسية جداً أما من يستدين لحاجات غير أساسية أو يستدين ولا يفكر في تهيئة مبلغ يقابل هذا الدين، فقد وقع في كرب عظيم، والعياذ بالله! وهناك حديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: »من أخذ من أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله«. نفهم من الحديث أن الأول أراد أداءها فقط، صادق في أداء الدين، ومادام صادقا في أداء الدين فالله جل جلاله ييسّر له وفاء الدين، وشخص آخر يماطله ولا يعطيه ماله، الله عز وجل يعاقبه بأن يتلفه هو. ويضيف: »الإنسان إذا استدان وكانت نيته مؤكدة أن يؤدي هذا الدين كان الله في عونه. والإنسان الذي يمد يد المساعدة لمن أراد منه مالاً، وساعد في حل مشاكل الناس وخفف عنهم هذا الإنسان الله معه. فالإنسان إذا استدان فهذا من حقه ولكن إن لم يترك مالاً يغطي هذا الدين يموت آثماً ولو كان شهيداً لا يعفى من الدين، يقول رسول الله: »نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه«. ويقول الدكتور نصر فريد واصل مفتي مصر الأسبق: »الدين في الإسلام له معنيان؛ الأول عام، والثاني خاص. المقصود بالعامّ هو كل ما ثبت في الذمة من حقوق الله تعالى. ومن أمثلة دين الله: الزكاة والكفارة والنذر والحج. جاء في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: »جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: »يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم شهر فأقضيه عنها؟ قال: »نعم فدين الله أحق أن يُقضى«. والمعنى الخاص هو كل مال ثبت في الذمة من حقوق الآدميين سواء ثبت بقرض أو بشراء أو غير ذلك. وقد شددت الشريعة في ما يخص الدين. وأخبرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الشهيد يُغفر له كل شيء إلا الدين، حيث تُحط عنه جميع ذنوبه وخطاياه ماعدا الدين فإنه يبقى لصاحبه يوم القيامة؛ وذلك لأنه حق آدمي لا يسقط إلا بإسقاط صاحبه له. ومن عظم أمر الدين كان النبي لا يصلي صلاة الجنازة على من مات وعليه دين ولو كان ديناً قليلاً، كما جاء في الصحيحين عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتي بميت ليصلي عليه فقال: »أعليه دين؟« قالوا: »نعم ديناران«، فقال: »صلوا على صاحبكم«، وأراد أن ينصرف، فقال أبو قتادة: »الديناران عليّ يا رسول الله«، فصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم«. ومعنى ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك الصلاة على رجل من المسلمين؛ لأن في ذمته دينارين فقط لأحد من الناس. وبهذا الموقف بيّن لنا النبي أن لا نستهين بأمر الدين، وألا يستدين الإنسان إلا عند الضرورة أو الحاجة الملحة.