من المحزن أن نسمع من بعض المثقفين ، أو المحسوبين على المثقفين أن حقوق الإنسان لا تلائم العالم العربي ، وفكره ؛ وثقافته ، كون حقوق الإنسان فكرة غربية ، وهي غريبة عنا كل الغربة ، بل يصرح كثير من هؤلاء أن حقوق الإنسان ، والديمقراطية ما هي إلا خطة غربية للنيل من صمودنا ، وتصدينا ، وحريتنا ، ووحدتنا ومكتسبات ثورتنا بحسب زعمهم . وأمام هذه الأقوال نرى أن من واجبنا بسط القول في هذا الشأن لنرى ما هي حقيقة حقوق الإنسان ، هل هي فكرة غربية محضة أم أنها أفكار قد تجد ما يوافقها في شريعتنا الإسلامية أو أن حقوق الإنسان فكرة أصيلة في الشريعة الإسلامية ومصادرها الأساسية . لاشك أن حقوق الإنسان هي الشغل الشاغل لكثير من مثقفي هذه الأمة أفراد ، وجمعيات . والحقيقة التي يجب أن نتعرف بها أن حقوق الإنسان في عالمنا العربي والإسلامي متردية جدا بل هي محاربة ليس كتطبيق فقط بل كنظرية أيضا يحارب كل من يعمل ؛ ويشتغل ، لأن هؤلاء يهددون عروش الفراعنة ، وأصنافهم . لذلك نرى قلة قليلة من يهتم بدراستها ومعرفتها ، وكثرة كثيرة تحاربها ، وتحارب من يريد معرفتها ، أو حتى الاقتراب منها بحجج كثيرة ، فربما هي رجس من عمل الشيطان يجب الابتعاد عنها ، وعن كل من يشتغل بها يتكلم فيها . من أجل هذا أحببت أن أكتب مبحث يوافق المقام ، والمقال أبين فيه حقيقة حقوق الإنسان في الشريعة الإسلامية ، والتصور الغربي ، لكي يكون كل مثقف على بينة ، فيما يعتقد ، ومن ثم يناضل ويدافع عما يعتقد أن حقوق الإنسان في الشريعة الإسلامية أصلية كل الأصالة في خطوطها العريضة وكثير من تفاصيلها ، لذلك أرى أنها الأحق أن تعم في الأرض ، لكي تكون رحمة للعالمين بدل من حقوق الإنسان الغربية . في الميزان.. إن حقوق الإنسان في الفكر السياسي الغربي نبتت من فكرة ما يسمى بالحق الطبيعي ، وهو الحق الذي وضعه مفكروا الرأسمالية عوضاً عن القوانين الكنسية التي وضعت على الرف كمصطلحات منذ القرن السابع عشر ، فجرى إغفال ذكر المصدر الكنسي لهذه القوانين ، والرجوع بها إلى ما يسمى بالطبيعة . أما حقوق الإنسان في الشريعة الإسلامية ، فإنها ترتبط بالعقيدة الإسلامية ارتباطا وثيقا لا انفكاك بينهما لا من نظريا ولا حتى من الناحية العلمية . قال تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ) . إن المسلم يختار بإرادته ، ورغبته كل ما يريد من خير أو شر ، فمن يسير على هدى الرحمن ، فهو بخير هو ومن معه فلا يضلوا ولا يشقوا أبداً . ومن يعرض عن الله ومنهاجه ، فإنه سيعيش حياة شقية ، تعيسة هو من يتبعه في اعتقاده ومنهجه . قال تعالى : ( قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ) . فالإسلام يرى أن الإنسان مكرم بكل شيء بالخلق ، والخليقة ؛ والعبودية لله الواحد الأحد ، وبتسخير الله تعالى كل شيء قد خلقه لخدمته ورعايته . قال تعالى : ( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا ). أما حقوق الإنسان في الفكر الغربي ، فإنها حق طبيعي ، ينبع من السيادة المطلقة للإنسان ، والذي لا تعلوه سيادة وفق اعتقاد هذا الفكر . ونتيجة لهذه النظرية كان هناك آثار خطيرة على الإنسان بمجمله ، فحين تكون الحقوق والواجبات نابعة من الطبيعة ، فاستغلت الرأسمالية الغربية هذه النظرية لخدمتها فأفنت شعوبا كاملة لاستغلالها ، واستعمارها بهدف تمكين الشعوب الغربية من الاستمتاع بحقوقها الطبيعية بأقصى ما يمكنها من الحرب والإبادة كما حصل في أفغانستان ، والعراق ، والصومال ، وغيرهم كثير . أما حقوق الإنسان في الشريعة الإسلامية : فهي هبة من الله تعالى للإنسان ، مما يجعل أن هذه الحقوق منوطة بالمفهوم الشرعي لها ، وليست خاضعة ، لأي تفسير كائن من كان إلا ضمن الضوابط الشرعية المعتبرة . لهذا من حق الشعوب إزالة الظلم السياسي ، وإزالة أي قانون بشري مهما سمي أو أطلق عليه مصطلحات مزخرفة ، لعدم جواز العبودية لغير الله تعالى ، أو الخضوع لغير شرعه الحكيم ، ويكون لكل إنسان مهما كان أن يعيش حياة كريمة ، وعلى نفقة بيت مال المسلمين حتى يتمكن من العيش الكريم بناء على جهده وعمله . لهذا فإن الحقوق الإنسان الشرعية شمولية لكل البشر مهما كان عرقهم ، أو معتقدهم ، فحين يختار الإنسان عقيدته بإرادته ، ويمارس أعماله وفقها ، فإنه يحدد لنفسه حقوقا ، وواجبات في مجتمعه المسلم الذي ينتسب إليه . أما في الفكر الغربي : فإن حقوق الإنسان ارتبطت بالحرية الفردية للإنسان الغربي فقط مما أدت إلى جعل هذه الحقوق للإنسان الغربي ، وليست حقوقا لكل البشر ، وإن ادعى الغرب ومن يمثل ثقافته غير ذلك ، لأن الواقع قد أثبت ، وبرهن على ذلك . أما حقوق الإنسان الشرعية : فهي حقوق شمولية لكل البشر بغض النظر عن عرقه ، أو لونه ، أو مكانه الجغرافي . قال تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ). أما بالنسبة للتكييف القانون لحقوق الإنسان : إن حقوق الإنسان في الفكر الغربي يرتبط بمبدأ الحرية ، وجعل من مسؤولية الدولة حماية الحريات دون رعاية الشؤون مما يجعل هذه الحقوق نظرية لا واقعية ، ثم وضع تشريعات لخدمة رجالات الرأسماليين ، وطبقتهم فقط دون مراعاة حقوق سائر أفراد المجتمع . لذلك نرى هذه التشريعات ، والقوانين تتيح للفرد مزاولة كل ما يحقق رغباته ، وحقوقه – وفق مفهومه - دون قيد أو شرط من دين ، أو خلق قويم ، أو عرف صحيح . و بهذا أبيحت العلاقات الجنسية دون ضوابط معتبرة كما أبيح الإلحاد بغض النظر عما يرتب ذلك من نتائج كارثية للمجتمع ، وأفراده . أما حقوق الإنسان الشرعية : فقد كانت واضحة منسجمة مع الفطرة الإنسانية ، ونابعة من المصادر الشرعية المعتبرة ، حيث حددت الحقوق ، والواجبات ؛ والأوامر ، والنواهي ، كما حددت الكيفية ، والضمانات التي يتم بها تأكيد تلك الحقوق ، وإبرازها ، وبين الأداة التي يناط بها إقامتها . لقد جاءت حقوق الإنسان الشرعية مفصلة تفصيلاً بديعاً ، وبغاية الوضوح ، والبساطة لتلائم عموم الأفراد ، والجماعات ، والعصور من نحو تحريم القتل إلا بحق ، تحريم الزنا ، حماية الكرامات ، والأعراض ، والحريات الخاصة ، تحريم الربا ، والاحتكار ، لضمان حق الكسب ، والحيلولة دون سيطرة القوي على الضعيف . كما أوجبت على الدولة الشرعية رعاية شؤون الأفراد بكافة عروقهم ؛ ودياناتهم ؛ ومواطنهم لمنع الظلم عنهم ، وبينهم . كما رتبت الشريعة على المخالفين الذين يعتدون على الحرمات ، وحقوق الغير عقوبات زاجرة تحول دون ضياع تلك الحقوق . كما رتب على السلطان الذي يظهر الكفر البواح نزع الشرعية عنه وعن سلطانه . و بهذا فإن الشريعة الإسلامية الغراء أظهرت التفصيلات لحقوق الإنسان من الجانب الإيجابي بالتشريع لضمان هذه الحقوق ، ومن الجانب السلبي بمنع التجاوزات غير الشرعية . أما من ناحية المقاصد لحقوق الإنسان : إن غاية حقوق الإنسان الغربية هو التركيز على القيم ، والمبادئ الرأسمالية بكل ما فيها من مزايا وعيوب ، لأن هذه الحقوق ليست وليدة مبادئ قانونية ثابتة تعالج الواقع الإنساني ، فضلا عن أنها لا تعمل على تحقيق أهداف إنسانية للبشرية عموما بل جاءت لخدمة الغرب والغربيين فقط . أما عن مقاصد حقوق الإنسان في الشريعة الإسلامية : إن غاية حقوق الإنسان الشرعية ترتبط بالغاية الكبرى من مقصود التشريع الإسلامي ، ألا وهي تحقيق عبودية الخلق للخالق عز وجل . قال تعالى : (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) ). كما أن من مقاصد حقوق الإنسان الشرعية حفظ الوجود الإنساني ، والتي حددها ، وبينها علماء الأصول والتي أطلقوا عليها مصطلح : ( الضروريات ) وفق التفصيلات التالية : 1- حفظ الدين . 2- حفظ العقل . 3- حفظ المال . 4- حفظ العرض . فضلا عن حفظ الحاجيات ، وهي جميع أحكام العلاقات الإنسانية . و أخيرا حفظ التحسينات من مكارم الأخلاق ، ومحاسن العادات ، والتقاليد . و بهذا المقال يتبين لنا الاختلاف الجذري من حقوق التصور ، والتنظيم ، والممارسة لحقوق الإنسان في الشريعة الإسلامية ، والفكر الغربي مما يعطينا دفعة للأمام بأننا فعلا كنا ، وما زلنا خير أمة أخرجت للناس إذا عدنا إلى هدى ديننا القويم . قال تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آَمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ). وبعد كل ما بينت وبينت بما يوافق المقام والمقال يتبين لنا عظمة هذه الشريعة ، والتي تبرهن يوما بعد يوم وجيلا بعد جيل مدى عظمتها وقدرتها على مواجهة مشاكلنا وتحقيق آمالنا وعلاج آلامنا . لذلك الواجب على المشتغلين بالشريعة ، والقانون ، وحقوق الإنسان أفرادا ، ومنظمات أهلية ، أو حكومية الاهتمام الحقيقي بالشريعة الإسلامية ، وحقوق الإنسان الشرعية ، لأنها فيها تحقيق سعادتنا في الدنيا ، والآخرة ، وفيها عزتنا ، وكرامتنا لنكون من جديد خير أمة أخرجت للناس فنقيم العدل ، ونوزع الخير ، والرحمة بين البشر كل البشر .