يقول الدكتور حسام الدين بن موسى عفانة، أستاذ الفقه وأصوله في جامعة القدس: التوبة هي الرجوع إلى الله تعالى من المعاصي والآثام إلى الطاعة، وعرَّفها الإمام الغزالي بأنها: العلم بعظمة الذنوب، والندم والعزم على الترك في الحال والاستقبال والتلافي للماضي. إحياء علوم الدين 4/3. وقال الشيخ ابن القيم:[ التوبة في كلام الله ورسوله كما تتضمن الإقلاع عن الذنب في الحال، والندم عليه في الماضي، والعزم على عدم العود في المستقبل، تتضمن أيضاً العزم على فعل المأمور والتزامه، فحقيقة التوبة الرجوعُ إلى الله بالتزام فعل ما يجب وترك ما يكره؛ ولهذا علق سبحانه وتعالى الفلاح المطلق على التوبة حيث قال:{وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}سورة النور الآية 31.مدارج السالكين1/305. والتوبة من المعصية واجبةٌ شرعاً على الفور باتفاق الفقهاء؛ لأنها من أصول الإسلام المهمة وقواعد الدين، وأول منازل السالكين. قال القرطبي:[اتفقت الأمة على أن التوبة فرضٌ على المؤمنين؛ لقوله تعالى:{وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ} تفسير القرطبي 5/90. وقال القرطبي أيضاً:[وقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً} أمرٌ بالتوبة وهي فرضٌ على الأعيان في كل الأحوال وكل الأزمان] تفسير القرطبي 18/197. والتوبة محبوبةٌ إلى الله تعالى لقوله:{إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}سورة البقرة الآية 222. والتوبة من أسباب الفلاح لقوله تعالى:{وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} سورة النور الآية 31. وقد ورد في السنة النبوية أيضاً الحض على التوبة فقد ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها) رواه مسلم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:(إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر) رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وهو حديث حسن كما قال العلامة الألباني في صحيح سنن الترمذي حديث رقم 2802. وقال الإمام النووي:[ وقد أجمع العلماء رضي الله عنهم على قبول التوبة ما لم يغرغر] شرح النووي على صحيح مسلم 1/149. ومعنى يغرر أي ما لم تبلغ روحه حلقومه. خمسة شروط وقد ذكر أهل العلم أن للتوبة الصادقة خمسة شروط: [الشرط الأول: الإخلاص لله بتوبته، بأن لا يكون الحامل له على التوبة رياءً أو سمعةً، أو خوفاً من مخلوق، أو رجاءً لأمرٍ يناله من الدنيا، فإذا أخلص توبته لله وصار الحامل له عليها تقوى الله عز وجل والخوف من عقابه ورجاء ثوابه، فقد أخلص لله تعالى فيها. الشرط الثاني:أن يندم على ما فعل من الذنب، بحيث يجد في نفسه حسرةً وحزناً على ما مضى، ويراه أمراً كبيراً يجب عليه أن يتخلص منه. الشرط الثالث:أن يقلع عن الذنب وعن الإصرار عليه؛ فإن كان ذنبه تَرْكَ واجبٍ قام بفعله وتَدَارَكَه إن أمكن، وإن كان ذنبُه بإتيانِ محرمٍ أقلع عنه، وابتعد عنه، ومن ذلك إذا كان الذنب يتعلق بالمخلوقين، فإنه يؤدي إليهم حقوقهم أو يستحلهم منها. الشرط الرابع: العزم على أن لا يعود في المستقبل، بأن يكون في قلبه عزمٌ مؤكدٌ ألا يعود إلى هذه المعصية التي تاب منها. الشرط الخامس:أن تكون التوبة في وقت القبول، فإن كانت بعد فوات وقت القبول لم تقبل، وفوات وقت القبول عام وخاص: أما العام؛ فإنه طلوع الشمس من مغربها، فالتوبة بعد طلوع الشمس من مغربها لا تقبل، لقول الله تعالى:{يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلْ انتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ}سورة الأنعام الآية 158. وأما الخاص؛ فهو حضور الأجل، فإذا حضر الأجل فإن التوبة لا تنفع لقول الله تعالى:{وَلَيْسَتْ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ}سورة النساء الآية 18] مجموع فتاوى الشيخ العثيمين 2/152. إذا تقرر هذا فإن الإسلام قد حرَّم التعدي على مال المسلم، بأي شكل من أشكال التعدي كالسرقة والاختلاس والنهب والسلب وغيرها، وحرمة مال المسلم ثابتة بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} سورة النساء الآية 10. وصح في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع:( إن دمائكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا إلى يوم تلقون ربكم ) رواه البخاري ومسلم. وقال النبي صلى الله عليه وسلم:( كلُ المسلم على المسلم حرامٌ، دمه وعرضه وماله) رواه الترمذي وابن ماجة وصححه العلامة الألباني في صحيح سنن الترمذي 2/180. وقال صلى الله عليه وسلم:( لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه) رواه أحمد والبيهقي وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في إرواء الغليل 5/279. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(لتؤدنَّ الحقوقَ إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء – التي لا قرن لها – من الشاة القرناء ) رواه مسلم. وقال صلى الله عليه وسلم:( على اليد ما أخذت حتى تؤديه) رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وقال حسن صحيح، ورواه الحاكم أيضاً وصححه. فليتحلله.. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(من كانت له مظلمةٌ لأخيه أو شيء فليتحلله قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عملٌ صالحٌ أُخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم تكن له حسنات، أُخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه) رواه البخاري. ومعنى فليتحلله أي ليسأله أن يجعله في حلٍ من قٍبله، ومعناه: أن يقطع دعواه ويترك مظلمته. وثبت في الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:( يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدَّين) رواه مسلم. وبناءً على ما سبق قرر أهل العلم أن حقوق العباد لا تسقط بالتوبة، وكذلك لا تسقط حقوق العباد بالشهادة في سبيل الله عز وجل، قال الإمام النووي:[وأما قوله صلى الله عليه وسلم:(إلا الدَّين) ففيه تنبيه على جميع حقوق الآدميين، وأن الجهاد والشهادة وغيرهما من أعمال البر لا يكفر حقوق الآدميين، وإنما يكفر حقوق الله تعالى] شرح صحيح مسلم للنووي 5/28. وقال التوربشتي:[أراد بالدَّين هنا ما يتعلق بذمته من حقوق المسلمين إذ ليس الدائن أحق بالوعيد والمطالبة منه من الجاني والغاصب والخائن والسارق] تحفة الأحوذي 5/302. وقال الشيخ ابن كثير:[...حقوق الآدميين وهي لا تسقط بالتوبة، ولا فرق بين المقتول والمسروق منه، والمغصوب منه والمقذوف وسائر حقوق الآدميين، فإن الإجماع منعقدٌ على أنها لا تسقط بالتوبة، ولا بد من أدائها إليهم في صحة التوبة، فإن تعذر ذلك فلا بد من الطلابة يوم القيامة، لكن لا يلزم من وقوع الطلابة وقوع المجازاة، وقد يكون للقاتل أعمالٌ صالحةٌ تصرف إلى المقتول أو بعضها، ثم يَفضلُ له أجرٌ يدخل به الجنة، أو يعوض اللهُ المقتولَ من فضله بما يشاء، من قصور الجنة ونعيمها، ورفع درجته فيها ونحو ذلك] تفسير ابن كثير 2/381. وقال القرطبي:[ فإن كان الذنب من مظالم العباد فلا تصح التوبة منه إلا بردِّه إلى صاحبه والخروج عنه- عيناً كان أو غيره - إن كان قادراً عليه، فإن لم يكن قادراً فالعزم أن يؤديه إذا قدر في أعجل وقت وأسرعه] تفسير القرطبي 18/200. لابد من رد الحقوق لأهلها وقال الإمام النووي:[ وإن تعلَّق بها - أي التوبة - حق مالي كمنع الزكاة والغصب والجنايات في أموال الناس وجب مع ذلك تبرئة الذمة عنه، بأن يؤدي الزكاة ويرد أموال الناس إن بقيت، ويغرم بدلها إن لم تبق، أو يستحل المستحق فيبرئه، ويجب أن يعلم المستحق إن لم يعلم به، وأن يوصله إليه إن كان غائباً إن كان غصبه منه هناك، فإن مات سلَّمه إلى وارثه، فإن لم يكن له وارث وانقطع خبره، دفعه إلى قاضٍ تُرضى سيرتهُ وديانته، فإن تعذر تصدق به على الفقراء بنية الغرامة له إن وجده... وإن كان معسراً نوى الغرامة إذا قدر، فإن مات قبل القدرة فالمرجو من فضل الله تعالى المغفرة . قلت - أي النووي - ظواهر السنن الصحيحة تقتضي ثبوت المطالبة بالظلامة، وإن مات معسراً عاجزاً إذا كان عاصياً بالتزامها، فأما إذا استدان في مواضع يباح له الاستدانة واستمر عجزه عن الوفاء حتى مات، أو أتلف شيئاً خطأً وعجز عن غرامته حتى مات، فالظاهر أن هذا لا مطالبة في حقه في الآخرة إذ لا معصية منه والمرجو أن الله تعالى يعوض صاحب الحق ] روضة الطالبين 11/245- 246. وقال النووي أيضاً:[ وإن كان حقاً للعباد كالقصاص وحد القذف فيأتي المستحقَ ويمكنه من الاستيفاء، فإن لم يعلم المستحق وجب في القصاص أن يعلمه فيقول أنا الذي قتلت أباك ولزمني القصاص، فإن شئت فاقتص وإن شئت فاعف...وأما الغيبة إذا لم تبلغ المغتاب فرأيت في فتاوى الحناطي أنه يكفيه الندم والاستغفار وإن بلغته...فالطريق أن يأتي المغتاب ويستحل منه فإن تعذر لموته أو تعسر لغيبته البعيدة استغفر الله تعالى ولا اعتبار بتحليل الورثة هكذا ذكره الحناطي] روضة الطالبين11/ 247. وقال الشيخ أحمد النفراوي المالكي:[ وأما تبعات العباد فلا يكفرها التوبة بل لا بد من استحلال أربابها لأن حقوق العباد لا يقال لها ذنوب ] الفواكه الدواني 2/ 302. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية:[وأما حق المظلوم فلا يسقط بمجرد التوبة، وهذا حق، ولا فرق في ذلك بين القاتل وسائر الظالمين، فمن تاب من ظلم لم يسقط بتوبته حق المظلوم، لكن من تمام توبته أن يعوضه بمثل مظلمته، وإن لم يعوضه في الدنيا فلا بد له من العوض في الآخرة، فينبغي للظالم التائب أن يستكثر من الحسنات، حتى إذا استوفى المظلومون حقوقهم لم يبق مفلساً،ومع هذا فإذا شاء الله أن يعوض المظلوم من عنده فلا رادَّ لفضله، كما إذا شاء أن يغفر ما دون الشرك لمن يشاء] مجموع الفتاوى 18/187-189. وخلاصة الأمر أن الواجب على المسلم أن يبادر إلى التوبة إلى الله عز وجل من كل الذنوب والمعاصي، وأن المعصية إذا تعلقت بحقوق العباد فلا بد من ردِّ الحقوق إلى أهلها، ولا توبة بدون ذلك، والواجب على السائل أن يردَّ الأموال التي اختلسها إلى صاحبها ولو خفية، حتى تبرأ ذمته عند الله عز وجل.