بقلم: د· علي جابر الشارود تعتبر التعددية السياسية من أهم مجالات التعددية بشكل عام، بل إنها هي أول ما يطرق للذهن عند إطلاق لفظ التعددية، ومن الممكن القول إنها تحوي باقي مجالات التعددية سواء التعددية الدينية أم الاقتصادية، وحتى الثقافية والاجتماعية، ولعل السبب في هذا راجع في الأساس إلى أمرين رئيسين: الأول: اهتمام المفكرين وخاصة الغربيين بهذا المجال بالذات وإعطائه الأولوية في التناول والدراسات· الأمر الثاني: أن السياسة في الوقت الحاضر هي المنظمة لشؤون المجتمعات والدول والأشخاص ووضع تصورات على شكل دساتير وقوانين لتحكم عملية التعدد والاختلاف بين أفراد المجتمع والدولة، سواء كانت هذه الاختلافات دينية أم اقتصادية أم اجتماعية وثقافية مما جعل التعددية السياسية حاكمه على باقي أنواع التعدد والاختلاف· أما عن المقصود بالتعددية السياسية فإنَّ موسوعة السياسة تذهب في تعريفها إلى أنها: "مفهوم ليبرالي ينظر إلى المجتمع، على أنَّه يتكون من روابط سياسية متعددة، ذات مصالح مشروعة متفرقة··تحول دون تمركز الحكم وتساعد على تحقيق المشاركة وتوزيع المنافع· والتعدديَّة السياسية تعني أيضاً: تعدد الجماعات والقوى السياسية المتنافسة، في سبيل الفوز بسلطة الحكم في الدولة، بما يضمن تداول السلطة وانتقالها من جماعة سياسية إلى أخرى بطريقة سلمية، فضلا عن الاعتراف بحد أدنى من الحقوق والحريات الأساسية، التي لا يجوز المساس بها في حالة الأخذ بمبدأ التداول السلمي للسلطة، وبخاصة حقوق الأقليات السياسية أو المعارضة· وبذلك تصبح الديمقراطية طبقا للتعدديَّة السياسية، حكم الأغلبية مع المحافظة على حقوق الأقلية· أولا: التعدديَّة السياسية في الفكر الغربي تشير لفظة التعدديَّة في الاستعمال السياسي الغربي إلى: "قبول الأفراد والمؤسسات العامة بآراء سياسية متضاربة، تعززها هيئات منظمة تنظيماً طوعيا، وفئات تدافع عن مصالح معينة، وأحزاب سياسية، كما تشير إلى السماح بتعاقب حكومات أو أنظمة حكم اختيارية، في مراكز السلطة عن طريق الانتخابات"· وتسعى التعدديَّة في معناها السياسي لتقديم الحلول لمشكلة مدى مشاركة فصائل المجتمع المتنوعة والمتباينة في القرار السياسي والحكم· ولا يعني هذا الخيار بين الديمقراطية وغيرها من النظم، فالديمقراطية بأشكالها المختلفة، وبخاصة غير المباشرة والتي تأخذ بنظام الانتخاب والتمثيل النيابي، أمر مفروغ منه ومتفق عليه في أوربا وأمريكا، ولكن موضع النظر وراء ذلك· حيث إنَّ المجتمع لا يتكون فقط من حكومة وأفراد يشاركون في السياسة من خلال الانتخاب وعضوية الأحزاب السياسية، بل هناك شرائح أخرى كثيرة في المجتمع مثل الأقليات العرقية والثقافية والدينية والجمعيات العلمية والكنائس واتحادات العمال ومنظمات التجار والزراع وغير ذلك، فكيف يشارك هؤلاء في القرار السياسي الذي كثيرا ما يمس مصالحهم مباشرة· هذا هو السؤال الصعب الذي تزعم التعدديَّة السياسية أنها الحل الأمثل له· وسوف أكتفي هنا بتقديم أهم مدرستين للتعدديَّة السياسية· وهما: المدرسة الإنجليزية والمدرسة الأمريكية· فتتجه كلا المدرستين لنقد مفهوم الحكومة المعاصرة الذي نشأ في الغرب نتيجة عوامل كثيرة ونظريات سياسية معينة، والتي جعلت من الحكومة مؤسسة ضخمة تسيطر على كل الموارد وتقرر في كل صغير وكبير من شؤون المجتمع، حتى شبهها المفكر الإنجليزي جون هونر بمارد أسطوري هائل الجثَّة مذكور في الإنجيل· ويرى نقاد هذا التصور أنَّ الحكومة أصبحت بذلك عامل استبداد وطغيان تسيطر عليه فئة قليلة من السياسيين· ومن أجل تذويب سلطان الحكومة هذا فإن المدرسة الإنجليزية ترى أن من واجب الحكومة أن تعطي كامل الحرية والمشروعية لقيام هذه الجماعات الوسيطة بينها وبين أفراد المجتمع، والتي في العادة تشغل معظم اهتماماتهم ونشاطهم الاجتماعي والثقافي والاقتصادي، وينبغي للحكومة ألا تتدخل في توجيهها، بل تترك لها تقرير كثير من الشؤون التي تتصل بمصالحها الخاصة، وتقوم بتنفيذها إن لم تكن تتعارض مع مصالح المجتمع العامة· ومن المهم أيضا أن تنأى الحكومة عن تركيز سلطتها المركزية، وتحاول توزيع سلطانها وتفويض اختصاصاتها إلى إدارات محلية وإقليمية· أما المدرسة الأمريكية فلها طريقتها المختلفة لتحقيق تذويب سلطان الحكومة المطلق وذلك بإتاحة الفرصة لفصائل المجتمع المتنوعة لتكوين جماعات ضغط تلوي القرار السياسي لصالحها· فالسياسة ليس فيها حق إلا القوة، والمشروعية والعدل هو قرار يتخذه الأقوى ولهذا فإن القرار السياسي الحكومي ينحاز لجماعة الضغط الأقوى، والقوة صورها كثيرة منها المال والعلم والقدرة الشخصية والشهرة والوقت والقدرة على كسب الرأي العام· ومن خلال هذه الوسائل تمارس الجماعات الضغط للتأثير في القرار السياسي الحكومي· ويلخص الرئيس الأمريكي روزفلت ذلك بقوله: "إن السياسة في الحقيقة ليست هي إلا علم موازنة مصالح جماعات الضغط المتعارضة"· وكالعادة فإن كلا الحلين يواجهان نقدا من عدم تحقيقها المشاركة الكبيرة من قطاعات المجتمع في الحكم· فالديمقراطية التي هي الأساس لهذه المشاركة في نظر النقاد لا تتيح مشاركة حقيقية، بل إن فئة قليلة جداً من الناس تشارك في الانتخابات لا تصل إلا إلى نسبة ضئيلة من مجموع الناخبين، وكثير من الناس يصوتون لممثلين وليس لسياسات، فاذا كانت الديمقراطية نفسها التى هي أساس مشاركة المجتمع أمراً نظرياً أكثر مما هو عملي فإن التعددية السياسية ليست إلا حلماً قليلاً ما يتحقق· فالتعددية السياسية في نظر الغربيين تهدف إلى الحد من سيطرة الحكومات على السلطة واستحواذها على نظام الحكم في الدولة، وإتاحة الحرية لكل فئات الشعب للمشاركة في توجيه سياسة الحكم في البلاد، وإتاحة حرية إعلان الآراء المناقضة والناقدة لسياسة الحكومات، سواء كان ذلك بشكل فردي أو جماعي، كل ذلك حسب مبدأ المشروعية وانطلاقا من مبدأي حق الاختلاف وإتاحة حرية الرأي للجميع· وبغض النظر عما يطبق فعلا في هذه الدول من موافقة لهذه النظرية أو مخالفة لها، إلا أنها تبقى نظرية للغرب في تصور التعددية السياسية، وهي نظرية لها فضلها وأهميتها في إتاحة الحريات وإثبات الحقوق، وخاصة حق محاسبة الحاكم على تقصيره وحق تداول السلطة لجميع المواطنين· ثانيا: التعدديَّة السياسية في الإسلام مصطلح التعدديَّة السياسية في الإسلام يتضمن ثلاثة أمور: أولاً: الاعتراف بوجود تنوُّع في مجتمع ما، بفعل وجود عدة دوائر انتماء فيه، ضمن هويته الواحدة· ثانياً: احترام هذا التنوُّع وقبول ما يترتب عليه من خلاف أو اختلاف في العقائد، أو الألسنة، والمصالح وأنماط الحياة والاهتمامات، ومن ثم الأولويات· ثالثاً: إيجاد صيغ ملائمة للتعبير عن ذلك كله بحريَّة، في إطار مناسب وبالحسنى، بشكل يمنع نشوب صراعات تهدد سلامة المجتمع· وإنَّ اشتراك جميع فئات المجتمع في هذا الإطار بآرائهم هو ما يصطلح على تسميته بالمشاركة السياسية· وقد كان في دولة المدينة وفي عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مجموعة من القوى السياسية، وقد تعامل النبي مع كل تلك القوى والجماعات السياسية، ولم يعمل على إلغائها أو إضعافها، وذلك من أجل الحفاظ على التوازن الاجتماعي والسياسي المطلوب، فضلاً عن أن تكَوُّن القوى والتجمعات السياسية هو حق من حقوق الحرية السياسية· ومفهوم التعدديَّة السياسية يشير إلى حق المعارضة في ممارسة أنشطتها، وقد كفل الإسلام للمعارضة السياسية السليمة كافة الحقوق المشروعة، كما أنَّ في التجربة الإسلامية الأولى دلائل وشواهد تؤكد شرعية المعارضة والتعدديَّة في الإسلام· فالإسلام يقر التعدديَّة السياسية في إطار الشريعة الواحدة، فميدان التعدديَّة والتنوع والاختلاف في السياسات والتدابير الجزئية المتعلقة بالمصالح المتغيرة ميدان مفتوح للتنوع والتعدديَّة والاختلاف، وذلك في إطار وحدة الشريعة في الثوابت والقواعد والمبادئ والفلسفة الحاكمة لروح هذه السياسات·· ذلك أنَّ السياسة في الرؤية الإسلامية لا تثبت "بثبات النصوص" ولا تتناهى "بتناهي هذه النصوص" لأنَّها لا تنحصر فيما جاء به النص، وإنَّما تتسع لكل ما لا يخالف ما جاء به النص·· وبعبارة الإمام أبو الوفاء ابن عقيل "السياسة كل فعل وتدبير يكون الناس معه أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم يضعه الرسول صلى الله عليه وسلم ولم ينزل به وحي"· فالتعدديَّة السياسية توازن بين "الثوابت" التي أوجبتها الشريعة الإسلامية في مصادرها وأصولها، متمثلة في القيم السياسية الكلية "الحرية"، و"المساواة"، و"العدالة"، و"الشورى" والتي يجب الوقوف عندها ولا يجوز التحلل منها_,_ وبين_ "المتغيرات" أو"الوسائل" التي تُبدعها الأمة، لتحفظ لنفسها حقها في العيش تحت لواء هذه القيم السياسية الإسلامية· و"المتغيرات" أو"الوسائل" تختلف من عصر إلى عصر، ومن قوم إلى قوم، ولا تثريب، على أهل بلد إسلامي، إن رأوا اتخاذ ما لا يحتاج إليه أهل بلد آخر، أو ابتدعوا ما لم يسبقهم إليه سابق، أو اقتبسوا من تنظيم غيرهم ما يحفظ لهم حقوقهم، ويصون عليهم حرياتهم وحرماتهم· وبهذا تعبر التعدديَّة السياسية في المجتمعات الإسلامية عن الاختلاف والتنوع والاجتهادات المتعددة في ميادين الإصلاح المتنوعة والمتشعبة، وذلك في إطار القيم الكلية التي لا يلحقها التغير بالزمان والمكان· الخلاصة ويمكن تلخيص التعدديَّة السياسية الإسلامية في النقاط الآتية: o يقوم الحكم على الشورى، وحسب رأي علماء الإسلام المعاصرين فإنَّ من طرق الشورى الانتخابات لاختيار رأس الدولة ومجالس شوريَّة· والشورى تعني أيضا في اجتهادات المعاصرين، إتاحة الفرصة لتكوين أحزاب سياسية متعددة، مع إصلاح النظام الحزبي من عيوبه· o تعتمد الحكومة الإسلامية النموذج التاريخي الإسلامي من توزيع السلطة على أمصار الدولة وعدم احتكارها في المركز· oتفوض الحكومة لمؤسسات المجتمع الطوعية أو ما يسمى بمؤسسات المجتمع المدني، القيام بأكبر قدر من الخدمات من تعليم وصحة ومواصلات ومياه وغيرها، تمول عن طريق أوقاف خيرية· ولا تختص الحكومة إلا بالخدمات العامة الهامة من جيش وقضاء وشرطة وخزانة المال العام· oتتيح الدولة لكل فرد من أفرادها من مسلمين وغير مسلمين، بجميع طوائفهم وهيئاتهم وجمعياتهم الحق في تكوين مؤسسات طوعية وقفية تخدم مصالحهم الخاصة من ثقافية ودينية واقتصادية وفنية وغيرها· وبهذا فإن التعددية السياسية في المذهبية الإسلامية لا تختلف عنها في الفكر الغربي، اللهم إلا التزام التعددية في الإسلام بالمرجعية الإسلامية والثوابت الكلية للشريعة· ومع ذلك فإن التعددية في الأصل إنما هي خاضعة للاجتهادات العلمية والخبرات العملية، ومتغيرة لما يناسب كل زمان ومكان· بل إنَّ الإسلام يتيح في جانبه السياسي أن يستفيد المسلمون من تجارب وخبرات غيرهم حتى ولو كانوا أعداء مجاهرين بالعداوة· ومن هنا فإن خلاصة نظرية التعددية السياسية في الإسلام، هي إتاحة حرية الاختلاف في الأمور السياسية، وتزكية هذا الاختلاف والاستفادة منه، ما لم يخرج عن دائرة المباح، وهذا الحق في الاختلاف نابع أساسا من المبادئ السياسية الكبرى في الإسلام وهي: "الشورى " و "المساواة" و "العدالة"، وهي ثوابت إسلامية لا يمكن للحكومات الإسلامية أن تحيد عنها وإلا فقدت مشروعيتها· ______________________ * جزء من دراسة وافية حول "التعددية الحزبية في ظل الدولة الإسلامية" للكاتب · * مفهوم التعدديَّة السياسية يشير إلى حق المعارضة في ممارسة أنشطتها، وقد كفل الإسلام للمعارضة السياسية السليمة كافة الحقوق المشروعة، كما أنَّ في التجربة الإسلامية الأولى دلائل وشواهد تؤكد شرعية المعارضة والتعدديَّة في الإسلام· * يقوم الحكم على الشورى، وحسب رأي علماء الإسلام المعاصرين فإنَّ من طرق الشورى الانتخابات لاختيار رأس الدولة ومجالس شوريَّة· والشورى تعني أيضا في اجتهادات المعاصرين، إتاحة الفرصة لتكوين أحزاب سياسية متعددة، مع إصلاح النظام الحزبي من عيوبه·