حجر صحي وعزل وإجراءات صحية عالية ۛ هكذا تعامل المسلمون مع الأوبئة تعاقبت الأزمات والابتلاءات والمحن التي أصابت البشرية عبر تاريخها الطويل ونزلت بالناس صنوف شتى من الابتلاء كالطواعين والمجاعات والفيضانات والزلازل والجفاف وغير ذلك. وبالطبع فقد نال المسلمين من ذلك البلاء والجوائح الكثير وسجل تاريخهم أحداثها ووقائعها وآثارها. ولعل أكثرها فتكاً كان مرض الطاعون الذي انتشر أكثر من مرة في مصر والشام والمغرب والعراق والأندلس وقتل ألوفاً من سكانها. وفي هذه الأيام يشغل بال الجميع ما يُشاع من أخبار عن الوباء العالمي الذي يزداد انتشاراً يوماً بعد يوم والمسمى بفيروس كورونا وقد تسبب هذا الوباء بعدد كبير من الوفيات وحالات الخوف والذعر خصوصاً في البلدان التي استفحل فيها خطره. ولما كان هذا النوع من الأوبئة من قضاء الله وقدره وانطلاقاً من قوله تعالى: (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ۛ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (البقرة:195). فإننا كمؤمنين مطالبون بالعمل على الوقاية من هذا البلاء ودرء أسبابه وذلك بعد التوكل على الله والأخذ بالأسباب والتسليم بقضائه وقدره. * من الأوبئة والطواعين في فترات التاريخ الإسلامي: حدثت عدة أوبئة وأمراض جماعية عبر التاريخ الإسلامي وفي مختلف دوله وأمصاره وأصقاعه إلا أن أبرزها وأكثرها شهرةً وتأثيراً هي: – طاعون عمواس (18 ه/ 693م). – طاعون الجارف (69ه/ 688م). – طاعون الفتيات أو الأشراف (87 ه/ 705م). – طاعون مسلم بن قتيبة (131 ه/ 748م). – الأوبئة والطواعين في العصر العباسي والمملوكي والأيوبي في المشرق الإسلامي. – الأوبئة والطواعين في المغرب الإسلامي. أما طاعون عمواس فحدث في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وذلك أنه في العام الثامن عشر من الهجرةوقع شيءٌ فظيعٌ مروِّعٌ وقد سمِّي بطاعون عِمَواس نسبة إِلى بلدة صغيرة يقال لها: عِمَواس وهي: بين القدس والرَّملة لأنَّها كانت أول ما نجم الدَّاء بها ثمَّ انتشر في الشَّام منها فنسب إِليها وكان حصول الطَّاعون في ذلك الوقت بعد المعارك الطَّاحنة بين المسلمين والروم وكثرة القتلى وتعفُّن الجو وفساده بتلك الجثث أمراً طبيعياً قدَّره الله لحكمة أرادها. فكانت شدَّته بالشَّام فهلك به خلقٌ كثيرٌ منهم: أبو عبيدة بن الجرّاح وهو أمير النَّاس ومعاذ بن جبل ويزيد بن أبي سفيان والحارث بن هشام وقيل: استشهد باليرموك وسهيل بن عمرو وعتبة بن سهيل وأشراف النَّاس . حدث الطاعون الجارف في البصرة سنة 69ه في زمن عبدالله بن الزبير (رضي الله عنه) وسمي بالجارف لكثرة من مات فيه فقد اجترف الموت فيه الناس اجترافاً كالسيل واستمر ثلاثة أيام فقط . وفي عام 87ه وقع طاعون في العراق وبلاد الشام سمي بطاعون الفتيات لأنه وقع بالنساء والعذارى أولاً فوقع بالنساء قبل الرجال بينما سماه البعض بطاعون الأشراف لكثرة ما توفي فيه من أشراف القوم وأكابرهم . وكان آخر ما حدث من الطواعين في العصر الأموي هو طاعون مسلم بن قتيبة في سنة 131ه والذي سمي باسم أول من مات به وقد وقع هذا الطاعون في البصرة واستمر لثلاثة أشهر واشتد في رمضان حيث كان يحصى في بعض الأيام ألف جنازة أو يزيد . وتحدث ابن كثير أنه عندما اجتاح المغول بغداد ودمروها في سنة 656ه/ 1258م: تعطلت المساجد والجماعات والجمعات مدة شهور ببغداد … ولما انقضى الأمر المقدر وانقضت الأربعون يوماً بقيت بغداد خاوية على عروشها ليس بها أحد إلا الشاذ من الناس والقتلى في الطرقات كأنها التلول وقد سقط عليهم المطر فتغيرت صورهم وأنتنت من جيفهم البلد وتغير الهواء فحصل بسببه الوباء الشديد حتى تعدى وسرى في الهواء إلى بلاد الشام فمات خلق كثير من تغير الجو وفساد الريح فاجتمع على الناس الغلاء والوباء والفناء والطعن والطاعون فإنا لله وإنا إليه راجعون . وفي العصر المملوكي فقد تعرضت بلاد الشام لطاعون اجتاح معظم مناطقها في عام 748ه وقد أطلق عليه اسم الطاعون الأعظم لسعة انتشاره وشدة فتكه. وأفنى هذا الطاعون سكان مدن حلب ودمشق والقدس والسواحل. كما انتشر في حلب داء اسمه الفناء العظيم في عام 795ه وقد حصد بحصيلته النهائية 150 ألف شخص من حلب وقراها . أما المغرب العربي فمر بتاريخه في كثير من الأوبئة والمجاعات والجفاف في عصر المرابطين والموحدين والمرنيين وحتى الفترة الحديث ولعل من أهمها طاعون عام 571ه الذي انتشر في بلاد المغرب والأندلس ويعتبر أهم طاعون عرفه عصر الموحدين فقد كان له نتائج كارثية ولم يسلم منه أحد حتى أن أربعة أمراء من إخوة الخليفة يوسف بن يعقوب ماتوا فيه بينما كان يموت بسببه ما بين 100 و190 من عامة الناس في اليوم الواحد (بنمليح 2002 124). وقد حدث في المغرب طاعون عام 1798م والذي انتقل بالعدوى من التجار الذين حملوه معهم من الاسكندرية إلى تونسفالجزائر فالمغرب وقد تفشى الطاعون في فاس ومكناس ووصل إلى الرباط فكان يخلف 130 ضحية في اليوم . * كيف تعامل المسلمون مع الأوبئة في تاريخهم؟ في موجة طاعون عمواس ذُكر أن المسلمين تحركوا في إطار قول رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطاعون: إِذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه وإِذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه وهذا الحديث النبوي فيه إشارة واضحة إلى ما يطبق اليوم علمياً وعملياً من الحجر الصحي بهدف مواجهة الأوبئة المنتشرة فرسول الله لم يكتف بأن يأمرهم بعدم القدوم إلى الأرض الموبوءة بل أتبعها بأن أمر من كان في أرض أصابها الطاعون أن لا يخرج منها وذلك لمنع انتشار العدوى فينتقل الوباء إلى مناطق أخرى وبذلك فإن هذا الحديث لفتة إعجازية تضاف إلى سجل الطب النبوي. وقد رجع عمر بن الخطاب رضي الله عنه بناء على هذا الحديث إلى المدينة ولم يدخل الشام بعد أن كان قد قصدها ولم يكن ذلك هرباً من الموت المقدر أن عمر أجاب أبا عبيدة بن الجراح عندما سأله عن سبب رجوعه إلى المدينة قائلاً: أفراراً من قدر الله؟ فأجاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لو غيرك يقول هذا نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله… وعليه فقد أباح بعض العلماء الخروج على ألا يكون الخروج فراراً من قدر الله والاعتقاد بأنَّ فراره هو الَّذي سلَّمه من الموت أمَّا مَنْ خرج لحاجة متمحِّضَة فهو جائزٌ ومن خرج للتَّداوي فهو جائزٌ فإِنَّ تَرْكَ الأرض الوبئة والرَّحيل إِلى الأرض النَّزهة مندوبٌ إِليه ومطلوبٌ. وقد طلب الفاروق بعد ذلك من أبي عبيدة أن يرتحل بالمسلمين من الأرض الغمقة الَّتي تكثر فيها المياه والمستنقعات إِلى أرض نزهة عالية ففعل أبو عبيدة. وفي ذلك درس في الأخذ بأسباب الوقاية من المرض والوباء والابتعاد عن مصادره وأماكن استفحاله . بينما بقي أبو عبيدة بن الجراح وغيره من الصحابة في الشام ولم يخرجوا منها بعد أن أصابها الوباء. وقد أصاب بعض العلماء عندما ذكروا في حكمة النَّهي عن الخروج فراراً من الطاعون: أنَّ النَّاس لو تواردوا على الخروج لصار مَنْ عجز عنه بالمرض المذكور أو غيره ضائع المصلحة لفقد من يتعهَّده حيّاً وميتاً ولو أنَّه شُرع الخروج فخرج الأقوياء لكان في ذلك كسر قلوب الضُّعفاء. وقد قالوا: إِنَّ حكمة الوعيد من الفرار من الزَّحف لما فيه من كسر قلب مَنْ لم يفرَّ وإدخال الرُّعب فيه بخذلانه. وفي رواية أن الوباء لم يرتفع إِلا بعد أن ولي عمرو بن العاص رضي الله عنه الشام فخطب النَّاس وقال لهم: أيُّها الناس! إِنَّ هذا الوجع إِذا وقع إِنما يشتعل اشتعال النَّار فتجنَّبوا منه في الجبال فخرج وخرج النّاس فتفرقوا حتّى رفعه الله عنهم فبلغ عمر ما فعله عمرو فما كرهه. وهنا نجد أنه نصح القوم المصابين بأن يتفرقوا عن بعضهم ولا يتجمعوا حتى يقلل من نسبة انتقال العدوى وحتى لا يهلكهم المرض كجماعات بل يهلك من كان مصاباً به من الأفراد فيبقى الآخرون في معزل عن الإصابة به . وقد طور المسلمون طرق مواجهتهم للطاعون والأوبئة فيما بعد ففي العهد المملوكي ولمواجهة الأوبئة المنتشرة والكثيرة التي أصابت أهالي الشام ومصر عمد بعض السلاطين والميسورين من الناس بقصد الثواب والتقرب إلى الله إلى بناء البيمارستانات في مدن الشام جميعها لمداواة ورعاية المطعونين والمصابين بالأوبئة كالحمى وغيرها. ولأن الناس كانت تموت بأعداد كبيرة في فترة الوباء فإن الجثث كانت تترك ثلاثة أيام أحياناً على الأرض ولا يوجد من يواريها خوفاً من العدوى ولذلك فقد عمد بعض الحكام والأثرياء استجابة لتعاليم الدين الإسلامي والتي تحض على دفن الميت بأسرع وقت ممكن حفاظاً على حرمته وكرامته إلى إنشاء ما سمي بحوانيت أو مغاسل الموتى والتي تهتم بتغسيل وتكفين الفقراء من موتى المسلمين ثم يتم دفنهم وفق الشريعة الإسلامية . ولم ينس الناس أهمية التقرب من الله والدعاء إليه والرجاء منه في تلك الأوقات العصيبة فأخذ أهل الصلاح والعباد من الناس يتوبون إلى الله ويستغفرون ويزيدون من العبادات ومن أجل التقرب إليه فقد شرع بعضهم في إغلاق حوانيت الخمر وابتعد الناس عن ارتكاب الفواحش والمنكرات . وللمسلمين تجارب في تطبيق الحجر الصحي فقبيل انتشار طاعون 1798م في المغرب استطاع المغاربة تطبيق حجر صحي واتخاذ إجراءات للوقاية من الوباء الذي قدم من الشرق فهم وإن لم يستطيعوا أن يتفادوه ولكنهم استطاعوا تأخير قدومه عدة سنوات فهذا الطاعون أول ما بدأ في الإسكندرية في عام 1783م. والذي ساهم في تأخير قدوم الوباء مجموعة التدابير التي اتخذها سيدي محمد بن عبدالله لوقاية مملكته من الوباء المتفشي في الجزائر وذلك بأن أقام نطاقاً عسكرياً على الحدود الشرقية للمغرب وبدأت الهيئة القنصلية المقيمة في طنجة في عام 1792م باتخاذ اجراءات صحية وقائية على الواجهة البحرية بعد أن استطاعت انتزاع موافقة مولاي سليمان على فرض حجر صحي ضد الجزائر التي كان الوباء فيها قد تفشى آنذاك. * كيف نتعامل مع وباء كورونا وفق الرؤية القرآنية وسنة الأخذ بالأسباب؟ إذاً فاستناداً إلى قوله تعالى: (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) سورة البقرة:195″. ومع الرضا والتسليم بقضاء الله وقدره خيره وشره وباستقراء تجارب المسلمين وسيرتهم مع البلاء فإننا نخلص إلى عدة نتائج: – وجوب الأخذ بأسباب الوقاية والعلاج مع القناعة والاعتقاد بأننا نفر من أقدار الله إلى أقدار الله. – الاعتقاد بأن لنا في هذا المرض والبلاء أجر إن نحن صبرنا وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الطاعون شهادة لكل مسلم وإننا نحسب أن من مات بوباء الكورونا مثل من مات بالطاعون إذا كان المبتلى ذا نية على الشهادة وصبر على البلاء وشكر لله على كل حال. – وجوب تجنب أماكن العدوى والالتزام بقواعد الحجر الصحي التي تحددها الحكومات والقوانين فبالنسبة لمكان الوباء فإنَّ في البقاء فيه رخصةٌ والخروج منه رخصةٌ فمن كان في الوباء وأصيب فلا فائدة من خروجه وهو بخروجه ينقل المرض إِلى النَّاس الأصحَّاء ومن لم يُصَبْ فإِنَّه يرخَّص له في الخروج من باب التَّداوي على ألا يخرج النَّاس جميعاً فلا بدَّ أن يبقى من يعتني بالمرضى. – أخيراً: يجدر الإشارة إلى أهمية التقيد بإرشادات وتوجيه الجهات الرسمية والهيئات الطبية لأنها الأكثر معرفة ودراية بتفاصيل المرض وآثاره وذلك في كل بلد والتكافل مهم بين بني الإنسان للتغلب على هذا الوباء الخطير.