ثار الجدل، حول الدولة المدنية والدولة الدينية، واشتد اللغط حول طبيعة ومفهوم الدولة الإسلامية، وسادت المخاوف لدى الكثيرين من مطالبة بعض التيارات الدينية بعودة الخلافة الإسلامية، مما دفع دعاة الدولة المدنية للتحذير من تكرار نموذج الدولة الدينية الغربية التي عرفتها أوروبا في القرون الوسطى، والتي «كفر» بها كل الإصلاحيين في العالم. في ظل الجدل السياسي والفقهي حول مرجعية الدولة الإسلامية، وهل هي مدنية لا مكان فيها للأديان؟ أو مدنية ذات مرجعية إسلامية، يرى علماء الأزهر أن الشريعة الإسلامية مرنة، وصالحة للتطبيق في كل عصر. وهو ما يدفعنا للتساؤل: ماذا يعني المفكرون الإسلاميون بقولهم إن الحكم الإسلامي يقوم على المدنية والشورى، وأن الشريعة الإسلامية لا تقر بالدولة الدينية؟ وكيف يمكن فض الالتباس بين الدين والسلطة؟ وما هي الضوابط التي أقرها الفقهاء أساساً لنظام الحكم في الدولة الإسلامية؟ منظور الشريعة في كتابه «الإسلام.. والدولة المدنية» يصف الدكتور عبد المعطي بيومي- عميد كلية أصول الدين الأسبق وعضو مجمع البحوث الإسلامية - بعض الفرق الإسلامية المعاصرة بضيق الأفق في تطبيق هذا المذهب الفقهي أو ذاك، أو فقه هذه الفرقة أو تلك، تجاه مفهوم ومرجعية الدولة المدنية، ويرى أن تلك المحاولات تقوم على التحيز والانحصار في دائرة المذهبية الضيقة، أو الطائفية المذمومة، بعيداً عن منظور الشريعة في شمولها ونقائها الأصيل، فالإسلام كل لا يتجزأ ولا يتبعض منظوره، أو ينحصر في تأويل بعينه لهذه الفرقة أو المذهب أو التيار، وإنما هو فوق ذلك كله، وسابق على التأويلات والتفسيرات والاختلافات، فضلا عن الانقسامات والصراعات. ويؤكد الأصل الإسلامي للتعددية وحق الاختلاف والمجادلة بالتي هي أحسن، مستشهداً على ذلك بالآية الكريمة «ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة « و»لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة»، و»لا إكراه في الدين» وضرورة المجادلة بالتي هي أحسن، وما يتصل بذلك من معنى «المعارضة» التي لا يقصد بها العداوة، أو الخصومة، أو المخالفة بقصد المخالفة، أو استئصال الآخر المختلف معنوياً أو مادياً، وإنما الاجتهاد، والاختلاف الذي هو رحمة تقود الى إمكان تقديم حلول متعددة بما يفيد المجتمع. والخلاف الدائر بين أنصار الدولة المدنية، والدولة الدينية يرد عليه الدكتور عبد المعطي بيومي بالقول: ليست في الإسلام سلطة دينية، ولا دولة دينية، دولة الإسلام دولة مدنية في دائرة لها إطار أخلاقي قيمي ديني لكنها من الداخل تعمل العقل والاجتهاد، وتعطي الخبرة الإنسانية، مجالا واسعاً جداً. كما تقوم الدولة المدنية على أسس رئيسية هي أن الأمة مصدر السلطة، وعلى فصل السلطات وعلى عقيدة تشكل النظام السياسي، والاجتماعي والاقتصادي أما الدولة الدينية التي ظلت تحكم العالم في الحضارات القديمة فكانت تقوم على الحق الإلهي في الحكم لبشر معينين. في غاية المرونة وعن رأي الإسلام في الدولتين المدنية والدينية يقول الدكتور بيومي إن الدولة المدنية الأولى التي نشأت على يد الرسول -صلى الله عليه وسلم- حددت نقاطاً مهمة، أو محددات هي أن الأمة مصدر السلطات، فلم يتول حاكم في تاريخ الإسلام الحكم بناء على حق إلهي مطلق، وإنما كان الخلفاء يستمدون سلطتهم من البيعة العامة التي يبايع فيها الناس الخليفة المرشح إضافة للفصل بين ما هو ديني ودنيوي، والفصل بين السلطات حيث كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- حكماً بين الجميع، لكنه لم يتفرد بالسلطة، وكانت له هيئة تشريعية معروفة من كبار الصحابة في أنشطة الحياة المختلفة، وكان عليه الصلاة والسلام يوسع من مجموعة مستشاريه بحسب الأحوال والأنشطة. وكانت لهذه الدولة المدنية على عهد الرسول ملامح محددة منها أن الشريعة هي الإطار العام، وبداخلها منطقة للنصوص القطعية، وهي خاصة بالعبادات ثم جزء أكبر خاص بالأمور الدنيوية، تحكمها قواعد عامة، ونصوص عامة، والنص العام ميزته أنك تفهم شيئا، وأنا أفهم شيئا آخر، واللفظة القرآنية لها دلالة ظنية مفتوحة، وحينما يقول عز ورجل »وشاورهم في الأمر» فهذا يعني أن أي صورة من صور الشورى يعمل بها، كالبرلمان، أو مجلس الشيوخ، أو مجلس نواب، أو زعماء قبائل. ولم يضع الإسلام شكلا محددا للنظام السياسي، لكنه وضع له أربع ركائز أساسية يقوم عليها النظام الأساسي في الإسلام تبدأ بالمساواة تليها الحرية، ثم العدالة، ثم الشورى، وهذه ركائز الإسلام إذا طبقت يكون الحكم إسلامياً سواء كان جمهوريا او ملكيا، فالشريعة الإسلامية في غاية المرونة، وقابلة للتطبيق ما لم تبح ما حرم بنص. العدل والمساواة وإذا كانت المرجعية الإسلامية للدولة المدنية تثير المخاوف والالتباس بين الرؤية الدينية والسلطة الحاكمة، فإن الدكتور نصر فريد واصل - مفتي مصر الأسبق وعضو مجمع البحوث الإسلامية- يؤكد أنه لا يوجد تنافر بينهما فالأصل في السلطة الدينية والسلطة المدنية أنهما يؤديان إلى تحقيق العدل والمساواة، والإسلام لا يقر الفصل بين الدين والسياسة، لأن الإسلام دين ودنيا، وعقيدة الإسلام هي التي تؤكد العدل وعدم الغش، ودولة الإسلام هي دولة مدنية، حتى في عصر الرسول -صلى الله عليه وسلم- كانت الدولة المدنية وليست الدينية، وحتى عند وفاته ترك اختيار الخليفة من بعده شورى للمسلمين مما يعني أن اختيار الحاكم كان بشكل مدني وليس دينيا، والإسلام دولة مدنية دستورها الشريعة الإسلامية تجمع بين الدين والدنيا وحقوق الله وحقوق العامة، والدولة الدينية ليس لها وجود، والرسول صلى الله عليه وسلم كان رئيس دولة مدنية بصفة حاكما ومبلغا من عند الله فعندما يأمر بما يخص الدين يطاع أما فيما يخص أمور الدنيا والحكم بين الناس فكان مدنيا يستشير الصحابة في أمور الحرب والدنيا. الحكم بالحق قال الدكتور محمد الشحات الجندي، إن التحركات الأخيرة التي تنادي بتطبيق الشرع أسيء استخدامها وتم الانحراف بها عن مقصود الدولة المدنية في الإسلام، لأنه طبقاً للإسلام السيادة ليست للحاكم، بل للأمة بمعنى الشورى وطاعة الحاكم في غير معصية، والحكم بالحق، هذه هي المبادئ التي نص عليها القرآن والسنة، وما عدا ذلك للأمة أن تصدر تشريعات عمن يمثلون الأمة وتصبح ملزمة للحاكم، ولا يجوز في الإسلام ان تكون هناك دولة دينية