وعظ الإيمان ينتصر على الأنانية د· يوسف القرضاوي غريزة الأنانية أو حب الذات غريزة عاتية جبارة، لا يكاد يخلو بشر من سلطانها عليه، وقوة دفعها له، وتوجيهها لسلوكه· وأنك لترى الناس تدفعهم الأنانية إلى التنافس على الدنيا ومتاعها، ويدفعهم التنافس إلى التنازع والاختصام، ويدفعهم ذلك إلى ادعاء ما ليس لهم، وجحود ما عليهم من حق، وأكل أموال الناس بالباطل، وعندما يطل شيطان الخصومة برأسه لا يكون إلا حب الغلب بأي ثمن، وأية وسيلة· ولكن عنصر الإيمان إذا دخل المعركة أطفأ لهب الخصومة، فصارت نارها برداً وسلاماً، وحطم طغيان الأنانية فاستحالت تسامحاً وإيثاراً، وحلق بالمؤمن من المتاع الأدنى إلى المثل الأعلى· وفي القصة التي روتها أم سلمة زوج الرسول مثل واضح على مبلغ أثر الإيمان: رجلان يختصمان في مواريث وليس لهما بينة إلا دعواهما، كلاهما يقول: هذا حقي، وينكر على صاحبه أن يكون له حق·· ويحتكم الرجلان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي صدر كل منهما فرديته وأنانيته، فيصدع الرسول آذانهما وقلبيهما بهذه الكلمات الحية: (إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض· فأقضي له على نحو ما أسمع منه، فمن قضيت له من حق أخيه بشيء فلا يأخذ منه شيئاً فإنما أقطع له قطعة من النار)· سمع الرجلان المختصمان هذه الكلمات الهادرة، فلمست أوتار الإيمان من صدريهما، وأيقظت فيهما خشية الله والدار الآخرة، فبكى الرجلان، وقال كل منهما لصاحبه: حقي لك! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أما إذ فعلتما ما فعلتما فاقتسما وتوخيا الحق، ثم استهمّا، ثم تحالاّ) (القصة في كتاب (الأقضية) من سنن أبي داوود) (أي ليحل كل منكما صاحبه وليسامحه فيما عسى أن يكون حقه)· هنا كانت كلمة الإيمان، وكلمة الضمير الذي أيقظه الإيمان، هي القول الفصل، والقضاء العدل في قضية يعجز القانون المجرد، والقضاء الظاهر، عن معرفة الحق فيها مادام الطرفان متنازعين، ولا بينة لأحدهما· وقد قص النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه قصة رجلين مؤمنين، ضربهما مثلاً لما يجب أن يكون عليه المؤمنون من العفاف والزهد والإيثار قال: (اشترى رجل من رجل عقاراً له، فوجد الرجل الذي اشتري العقار في عقاره جرة فيها ذهب، فقال للذي اشترى العقار منه: خذ ذهبك عني، إنما اشتريت منك الأرض ولم ابتع منك الذهب)· فقال الآخر: إنما بعتك الأرض وما فيها! قال صلى الله عليه وسلم: فتحاكما إلى رجل·· فقال الذي تحاكما إليه ألكما ولد؟ فقال أحدهما: لي غلام· وقال الآخر: لي جارية· فقال الحكم: أنكحوا الغلام الجارية: وأنفقوا على أنفسكم منه وتصدقا (القصة رواها مسلم في صحيحه)· وهكذا يرى الناس لوناً ممتازًا من النفوس: رجلان وأمامهما جرة فيها ذهب لا يتقاتلان عليها· ولكن يتدافعانها، يقول كل منهما لصاحبه: هي لك·· على حين نرى الإنسان دائماً يقول: هذا لي! * من كتاب (الإيمان والحياة) للدكتور يوسف القرضاوي·