مساهمة: عبد الباقي صلاي* لا تعني المواطنة بشمولية مدلولها المتعارف عليه لدى المختصين من الأنتربولوجيين وغير الأنتربولوجيين الانصهار في بوتقة مجتمع تحدده معالم الولادة الأولى أو معالم الهجرة الاختيارية أو حتى القسرية.لكنها قد تعني الارتقاء بذلك الانتماء إلى ذاك المجتمع بما تحمله من المواصفات الحضارية التي يشترك في حيازتها أغلب البشر. وما أكثر المجتمعات التي باشرت تقدمها ليس من موقع موطنها بأدوات ساكنيها ولكن بسواعد جاءت من أقاصي الدنيا تحمل هم الحياة ويسكنها حب الحياة فتلاقت مع ما تطلبه من هذه الحياة لتخلق حياة أخرى في ظل سلوك بشري جديد. والتدليل على كل ذلك الولاياتالمتحدةالأمريكية التي وُجدت من العدم بمفهوم تاريخي وبمفهوم ما تحوزه من إمكانات بشرية لم تكن إلا من خارج الحيز الجغرافي للولايات المتحدةالأمريكية ذاتها.حتى أن السكان الأصليين من الهنود الحمر لم يرتقوا إلى وضع متطور وعلى أرض أجدادهم إلا بعد جحافل مهاجرين قدموا من أماكن متعددة كانوا يرومون العيش الكريم ويتوقون لذات حرة تنطلق في جنبات الحياة بحرية لا حد لها.ولكن لا تبدو المراهنة دائما على أن المواطنة من مواصفاتها أنها دائما تعني السلوك البشري المفعم بالقيم الحضارية التي ترقى بالمجتمع كيفما كان إلى مصاف الحضارة والحياة الطيبة.فقد تكون مواطنة من صنف لا تحمل من المصطلح إلا التوصيف الأجوف الذي لا يعني شيئا ولا يحمل إضافة سوى أنه عبء على الدولة التي يعيش في محيطها مجرد كتل بشرية.ونحن نرى كيف يحاول المواطن العربي التعايش مع وضعه على الرغم من ادعائه الانتماء الوطني للوطن الذي يعيش فيه بمعية أسرته.فهو يعيش المفارقات العجيبة مقارنة بالمواطن الغربي فبدءا من انخراطه في الحياة السياسية وانتهاء بتفاعله مع حالات الديمقراطية التي يحملها في صدره لكن لا تترجم إلى واقع كما يتخيله في واقعه النفسي.إنه يحمل بطاقة التعريف الوطنية ويؤدي الخدمة العسكرية التي تعرف في العديد من الدول العربية بالخدمة الوطنية ويؤدي واجبه الوطني الانتخابي ويحمل الجنسية الوطنية وله ربما وظيفة يتقاضى أجرته من الوظيف العمومي ومن الخزينة العمومية.لكن انتماءه الروحي قد يلغي كل تلك الحيازات فإذا كان المواطن لا يشعر بأمان وظيفي وأمان صحي وأمان مستقبله وعياله فإن المواطنة تكون منقوصة إذا لم تكن منعدمة.فلا يكفي أن يكون المواطن يحمل أوراقا لوطن لكن لا يحمل روحا وطنية تؤهله ليكون منتجا وفاعلا حضاريا داخل المجتمع الذي ينتمي إليه. والمواطنة كما يعرفها المختصون وهي تعني بالفرنسية (Citoyenneté) بحيث أن الفرد يجب أن يتمتع بعضوية بلد ما ويستحق بذلك ما ترتبه تلك العضوية من امتيازات. وفي معناها السياسي تُشير المواطنة إلى الحقوق التي تكفلها الدولة لمن يحمل جنسيتها والالتزامات التي تفرضها عليه أو قد تعني مشاركة الفرد في أمور وطنه وما يشعره بالانتماء إليه.وبذلك فالمواطن الذي يتعرف على ما تعنيه المواطنة أن يكون متفاعلا مع المجتمع الذي ينتمي إليه ويؤدي واجبه في ظل قوانين تحافظ على حقوقه المطلقة.وليس هذا فحسب فالمواطن الذي يستشعر مواطنته بشكل حقيقي في معاشه وأمانه ومستقبله ويرى حرص الدولة على حمايته وفق ما تمليه المواطنة الحقيقية الصادقة فإنه يرقى بنفسه وبوطنه ويكون صانعا للقيم الحضارية التي في العموم تقوم على تكريم الإنسان واحترام عقله وتبنى على تحقيق العدل والتحلي بمكارم الأخلاق وكل ما له صلة بالأخلاق العامة التي يشترك فيها سكان الكرة الأرضية من مختلف الأجناس البشرية.ومن يكون صانعا للقيم الحضارية فهو بالضرورة صانعا للحضارة ولمستقبل وطنه ومن منطلق دائما المواطنة الحقيقية المبنية على الصدق في كل شيء. لا تقتصر المواطنة دائما على الولادة الزمانية والمكانية للفرد فكما سبق-في الولاياتالمتحدةالأمريكية - فإن المواطنة قد تتولد خارج موطن الولادة الأولى وتبنى ضمن صرح حضاري متميز قد لا تكون لو بقي ذات المواطن في وطنه وكما يعبر أحدهم أن مفهوم المواطنة شهد في القرن الحادي والعشرين تطوّراً مالَ إلى العالمية وتحددت مواصفاته في الاعتراف بوجود ثقافات مختلفة واحترام حق الآخر وحرِّيته والاعتراف بوجود ديانات مختلفة وفهم وتفعيل أيديولوجيات سياسية مختلفة وفهم اقتصاديات العالم والاهتمام بالشؤون الدولية والمشاركة في تشجيع السلام الدولي والمشاركة في إدارة الصراعات بطريقة اللاعنف والتمتع بحقوق معينة والمسؤوليات والالتزامات والواجبات ومسؤولية المواطن في ممارسة دور ما في الشؤون العامة وقبول قيم اجتماعية أساسية. ونستطيع أن نقول إن الأفراد الذين انصهروا في المجتمعات الأخرى عبر الهجرة أو عبر الولادة المكانية ساهموا في صنع القيم الحضارية من باب المواطنة ولو أن انتماءهم النفسي بقي مرتبطا بالأصول العرقية والإثنية.لقد وجدوا الظروف مواتية ومفهوم المواطنة له انعكاسات إيجابية على حياتهم فدخلوا في المجتمع لا ينظرون إلى أنفسهم بقدر ما ينظرون إلى ما يقومون به وما يحصلون عليه نظير ذلك. ولو تأملنا فقط في هجرة الجزائريين نحو فرنسا وكيف دخلوا في المجتمع الفرنسي كمواطنين جزائريين- فرنسيين يحمل أغلبهم الجنسية الفرنسية على الرغم من بقاء انتمائهم الفطري للوطن الأم الجزائر.لقد دخلوا بحماس المواطنة فساهموا في بناء فرنسا خلال نهاية الحرب العالمية الثانية وخلال الاستقلال الجزائري.فما وجده المهاجر الجزائري في فرنسا لم يجده في الجزائر من حيث الأمان المادي وإن كان الأمان النفسي غائبا.وساهم العديد من أبناء المهاجرين بفرنسا بعد ذلك أن يكونوا حسب المواطنة فرنسيين من الدرجة الأولى وأن يساهموا بشكل مباشر وغير مباشر في بناء الحضارة الفرنسية بثقافة فرنسية.كما تفاعلوا في صناعة القيم الحضارية بكل مدلولاتها الظاهرة والمخفية.وأعطوا جانبا مهما للقيم الفرنسية كمواطنين فرنسيين لا يحملون أي عقدة ذنب تجاه أصولهم الأولى.وما ينطبق على الجزائريين وعلى أغلب سكان المغرب العربي ينطبق على الكثير من الذين هاجروا إلى فرنسا من دول أخرى.وهذا تدليل آخر على أن المواطنة عندما تحمل قواعد متينة يبرز فيها الفرد ليقدم ما هو أفضل لديه من قيم حضارية خدمة للوطن الذي يعيش فيه وخدمة لنفسه وخدمة للبشرية.لأن القيم الحضارية عابرة للقارات لا تعرف الحدود ويشترك فيها جميع سكان الكرة الأرضية.